وجهات نظر جديدة حول الأندراغوجي

نناقش مبادئ الأندراغوجي الرئيسيَّة، إذ نغوص ببحثنا هذا في الأفكار الجديدة التي تساهم في تحسين وتطوير هذه المبادىء. وهذه المبادئ الرئيسيَّة هي: (1) حاجة المُتعلِّم في أن يعرف، (2) التعلُّم الذاتي، (3) الخبرات السابقة للمُتعلِّم، (4) الاستعداد للتعلُّم، (5) التوجه نحو التعلُّم وحل المشاكل، (6) الدافع للتعلُّم.



حاجة المُتعلِّم في أن يعرف

إن مبدأ "حاجة الراشدين لمعرفة" أسباب تعلُّمهم قبل الاشتراك في أي موقف تعلُّمي أدى إلى ظهور فرضيّة لاقت القبول في تأكيدها على أهميّة اشتراك الراشدين في عمليَّة تخطيط تعلُّمهم. حقيقة، إن التحكّم المُشترك في تخطيط البرنامج وتدريبه يُعدُّ من أحد الخصائص المُميِّزة للعديد من برامج تعلُّم الراشدين. حيث تزداد فاعلية التعلُّم من خلال التحكّم المُشترك في إستراتيجياته حتى ضمن مواقف التعلُّم المُميِّز بمحتواه الجديد. إن إشراك الراشدين في عمليَّة التعلُّم واعتبارهم شركاء مُتعاونين يرضي "حاجتهم للمعرفة" ويدعم مفهومهم حول ذاتهم كمُتعلِّمين مُستقلّين.

 

ولأن التخطيط المُشترك مقبول بشكل كبير، ولأنه وُجد عموماً ليكون فعَّالاً لدى مُعظم المُمارسين، فقد عمد بعض الباحثين لاختبار صحة هذه الفرضيّة. قام باحثو التدريب بدراسات حول هذه الفرضيّة أثمرت عن وجود ثلاثة أبعاد لحاجة المعرفة: الحاجة إلى معرفة كيفيَّة حدوث التعلُّم، الحاجة إلى معرفة موضوع التعلُّم، الحاجة إلى معرفة أهميّة التعلُّم.


الحاجة إلى معرفة كيفيَّة حدوث التعلُّم: قام كل من تاننبوم وماثيو وسالاز وكانون-باورز (1991) بدراسة مجموعة من المُوظَّفين الجُدد لمعرفة مدى تأثير نتيجة التدريب على مواقف ما بعد التدريب. وقد عُرِّف الإنجاز التدريبي بأنه الدرجة التي يُحقّق فيها التدريب أو ينجز توقُّعات ورغبات المجموعة. وركّزت الدراسة بشكل كبير على كيفيَّة إجراء التدريب وكيف يكون متناغماً نوعاً ما مع مبادئ تعلُّم الراشدين. أظهرت هذه الدراسة أن نتيجة التدريب تتعلق بالالتزام التنظيمي لما بعد التدريب، وبالكفاءة الذاتيَّة الأكاديميَّة، وبالكفاءة الذاتيَّة الجسديَّة، وبالدافع للاستفادة من التدريب. تشير هذه النتائج بوضوح إلى أهميّة فهم توقُّعات ورغبات المُتدرِّبين من خلال التخطيط المُشترك وتقييم الحاجات.

 

الحاجة إلى معرفة موضوع التعلُّم: درس هيكس وكليموسكي (1987) مجموعة من المُدراء ممن حضروا تدريبات تقييم الأداء. وأكَّدت نتائج بحثهم على أن الأفراد كانوا أكثر اعتقاداً بملاءمتهم لورشة العمل بعد إعطائهم نظرة عامة تمهيديَّة وأكثر واقعيَّة عن مواضيع التدريب ونتائجه المُتوقّعة مع منحهم حريَّة الاختيار في حضور التدريب أو عدم حضوره. إضافة إلى ذلك، اعتقد الأفراد بأنهم أكثر قدرة على الاستفادة من ورشة العمل حيث بدوا أكثر التزاماً بقرارهم في حضور التدريب وأكثر اقتناعاً بالتعلُّم. كما نجد أن الطلاب الذين يتمتعون بدرجات عالية من حريَّة الاختيار، كانوا أكثر اندفاعاً للتعلُّم والدليل على ذلك كثرة تعلُّمهم.


اختبر كل من بالدوين وماجوكا ولوهير (1991) صحة الاقتراح القائل بأن إشراك المُتدرِّب في تخطيط التعلُّم يفيد في تحسين عمليَّة التعلُّم. فقد أكَّدت النتائج التي توصلوا إليها على أهميّة هذا الاختيار بالنسبة للتعلُّم. فالمُتدرِّبون الذين مُنِحت لهم حريَّة القرار في حضور التدريب، امتلكوا الحافز الأكبر للتعلُّم والتدريب، وبالمقابل كانت النتائج سيئة عند الذين لم يتمتعوا بهذه الحريَّة.


الحاجة إلى معرفة أهميّة التعلُّم: أجرى كلارك ودوبينز ولاد (1993) دراستهم على خمس عشرة مجموعة تدريب داخل اثنتي عشرة مُنظَّمة مُختلفة، تمثل تنوعاً واسعاً من الأنواع التنظيميَّة والمواضيع التدريبيَّة. كشفت النتائج بُعداً ثالثاً لحاجة المُتعلِّم كي يعرف. كما أظهرت الدراسة أن الفائدة من الوظيفة والمهنة هي دليل مهمّ للكشف عن دافع التدريب. إضافة إلى ذلك، عندما يحظى المُوظَّفون بفرصة المشاركة بقرار التدريب، عندها سيصبحون أكثر قدرة على فهم فائدة المهنة والوظيفة.

توسع روبر ووالين (1984) في بحثهما لهذا الموضوع حيث بحثا في أثر معرفة المُتدرِّبين لنتائج التدريب، وتوصل البحث إلى النتيجة التالية: حقق المُتدرِّبون أهداف ما بعد التدريب بعد معرفتهم بالنتائج، في حين فشل البقية في إحراز الأهداف.

ركّزت جميع تلك الدراسات على تعلُّم الراشد في موقف واحد (التدريب التنظيمي)، لذلك يجب توخِّي الحذر من التعميم على جميع مواقف تعلُّم الراشدين. ومع ذلك لا نستطيع إغفال أهميّة تلك الدراسات بوصفها دعماً للأندراغوجي بشكل مباشر. وفي هذا السياق نتوجه إلى المُختصين بتعلُّم الراشدين ونؤكد على ضرورة إشراك الراشدين في التخطيط، واعتبارهم شركاء في عمليَّة التعلُّم للوصول إلى نتائج أفضل. وعلى كل حال، لا يمكننا معرفة كيفيَّة حدوث ذلك بدقَّة من خلال هذا البحث. إن إشراك الراشدين في تخطيط عمليَّة التعلُّم قد يمكّنهم من اتّخاذ قرار بعدم المشاركة في التعلم الرديء أو أنه يمكن أن يغير مواقفهم فعلياً من التعلُّم. يشير البحث إلى ثلاثة مجالات يحتاج إليها الراشدون لمعرفتها والمشاركة فيها قبل عمليَّة التعلُّم، حيث يحتاج الراشدون لمعرفة: كيفيَّة التعلُّم وموضوعه وأهميته.
 

التعلُّم الذاتي

يتميّز الأندراغوجي بالفرضيّة الأساسيَّة التي تعتبر الراشدين مُتعلِّمين ذاتيين. وقد حظيت هذه الفرضيّة بالكثير من الاهتمام والمناقشة، حيث أن فكرة تمكّن الراشدين من التعلُّم الذاتي (SDL) أصبحت نتيجةً حتمية في أبحاث تعلُّم الراشدين. وتبقى الأسئلة التالية: هل يُعتَبَر التعلُّم الذاتي صفة أساسيَّة للمُتعلِّمين الراشدين؟ هل يسعى المُعلِّمون لمُساعدة جميع الراشدين للاعتماد على أنفسهم في عمليَّة التعلُّم؟ ينشأ الغموض المُحيط بفرضيّة التعلُّم الذاتي من صعوبة فهم ما هو المقصود من هذه الفرضيّة.

 

هناك مفهومان للتعلُّم الذاتي (بروكفيلد, 1986؛ كاندي, 1991)، الأول: يُعتَبَر بمثابة تعليم ذاتي، حيث يتمكّن المُتعلِّمون من اختيار تقنيَّات التعليم بأنفسهم فيما يتعلَّق بموضوع محدّد. فعلى سبيل المثال سيندمج الشخص الذي يكمل مُقرَّراً دراسياً مُستقلّاً بوضوح في التعليم الذاتي. ثانياً: يُعبِّر هذا التعلُّم عن الاستقلال الذاتي ويطلق عليه كاندي (1991) اسم عمليَّة التعليم الذاتي، ونقصد بالاستقلال الذاتي تحديد أهداف وغايات التعلُّم والتحكّم بعمليَّة التعلُّم بشكل كامل. ويؤدي ذلك بدوره إلى حدوث تغير ذاتي في وعي المُتعلِّم، فيعتبر المعرفة سياقية، ويبدأ بطرح الأسئلة حول ما تعلَّمه بدون تقييد.

 

يعتبر كل من هذين البعدين بمثابة مفهومين مُستقلّين على الرغم من تداخلهما في بعض الأحيان. قد يكون الشخص مُستقلّاً ذاتيَّاً لدرجة كبيرة إلا أنه يختار التعليم التقليدي بمُساعدة المُعلِّم وذلك لملاءمته وسرعته. مثلاً: ربما يقرر شخص ما أن يتعلَّم المزيد عن التخطيط المالي الشخصي، وبعد التمحيص في مختلف الاستراتيجيات يجد أن حضور المُقرَّرات في الجامعة هو الحل الأمثل بالنسبة له. في الحقيقة، يقرر مُعظم الراشدين أن التعليم التقليدي هو أفضل مداخل التعليم وخاصة حين تكون معرفتهم قليلة بموضوع التعلُّم. إن تفضيل التعليم التقليدي على التعلُّم الذاتي لا يعني بالضرورة تخلِّي المُتعلِّم عن التحكّم بالتعلُّم لمجرد اختياره هذه الطريقة. بل على العكس، فلا يعتبر اختيار المُتعلِّم للتعليم الذاتي دليلاً على الاستقلال الذاتي. لنتابع المثال السابق، قد يكون للطالب في الدورة الدراسية المُستقلَّة القليل من الخصوصية، إذا قام المُعلِّم المُشرِف بإعداد جميع المُتطلَّبات. بالنتيجة، لا يعتبر وجود أو عدم وجود أنشطة التعليم الذاتي مؤشراً دقيقاً على الاستقلال الذاتي. وبالنسبة لمُعظم محترفي التعلُّم فإن البعد الأكثر أهميّة للتعلم المُوجَّه ذاتيَّاً هو بناء الاستقلال الذاتي.

 

إذ أن افتراض مقدرة جميع الراشدين على التعلُّم والاستقلال الذاتي بشكل كامل في جميع مواقف التعلُّم هو افتراض غير مقبول عموماً. فمن المُحتمَل أن يُظهِر مُتعلِّم ما في موقف خاص مقدرات مُختلفة. اقترح جرو (1991) ارتباط التعلُّم الذاتي بالموقف، وحدّد وظيفة المُعلِّم باختيار الأساليب الملائمة للطالب، كما هو واضح في الجدول 9-1.


من المهم مُلاحَظة حدوث إمكانية عدم التلاؤم في أي من هذين الاتجاهين، فمن المُمكن أن يُشكِّل التوجه الذاتي الزائد عن حدِّه مشكلة كبيرة، تماماً كما هي الحالة عندما يكون منخفضاً وذلك حسب طبيعة المُتعلِّم. على سبيل المثال؛ فإن المُتعلِّم الخبير بموضوع ما، والذي لديه مهارات تعلُّم قويّة من المُحتمَل أنه سيشعر بالإحباط في حالات التعلُّم المضبوطة بشدة.  والعكس، يمكن للمُتعلِّم الذي تنقصه الخبرة ومهارات التعلُّم الذاتي، أن يشعر بالخوف في مواقف التعلُّم الذاتي، في بادئ الأمر على الأقل. يجب على المُعلِّم تنظيم مواقف التعلُّم لملاءمة جميع المستويات نظراً للفروقات الكبيرة بين المُتعلِّمين.

 

من المهم مُلاحَظة أنَّ مهارات التعلُّم، أو الاستقلال الذاتي، أو كليهما معاً يُشكِّلان المُحدّد الرئيسي لمستوى المُتعلِّم. بافتراض أنَّ المُتعلِّم يُظهر سلوكيَّات المرحلة الأولى، يمكن لذلك الشخص أن يكون مُستقلّاً ذاتيَّاً بشدة، ولكنه لا يعلم كيفيَّة تعلُّم مادة معينة. أو يمكن أن يكون لديه مهارات تعليم ذاتي قويّة، ولكن القليل من الاستقلال الذاتي. أو يمكن أن يكون الشخص مُستقلّاً ذاتيَّاً بشدة ومعلِّم ذاتي جيد، ولكنه ببساطة يختار ألا يتعلَّم بشكل فردي.
 

يوضِّح جاريسن (1997) مفهوم التعلُّم الذاتي بمعانيه العديدة بطريقة اصطلاحية، فهو يقترح نموذجاً شاملاً للتعلُّم الذاتي مؤلف من ثلاثة مُكوِّنات: (1) الإدارة الذاتيَّة (التحكّم)، (2) الدافع (الاشتراك والعمل)، (3) المراقبة الذاتيَّة (المسؤوليّة). يعتقد جاريسن بأن تعليم الراشدين يُركِّز بشكل تقليدي على المُكوِّن الأول، التحكّم بالتعلُّم، ويُركِّز بشكل أقل على عمليَّات التعلُّم. وعلى نحو مماثل يقترح جاريسن ضرورة الاهتمام بقضايا الدافع والتي تتضمّن التحفيز للاندماج بالتعلُّم المُوجَّه ذاتيَّاً ولإكمال مهمّات التعلُّم المُوجَّه ذاتيَّاً. أما المُكوِّن الثالث لجاريسن، المراقبة الذاتيَّة: هي عمليَّات التعلُّم الإدراكي ومهارات ما بعد الإدراك التي يحتاجها الشخص للاندماج في التعلُّم الذاتي. يحتاج محترفو تعليم الراشدين أن يُركِّزوا الانتباه على المُكوِّنات الثلاث جميعها.

 

تستطيع تحميل بقية البحث من خلال الملف المرفق