نماذج التعلم (Models of Learning)

يقول هيرمان ابنغهاوس عالم النفس الألماني: "إن لعلم النفس ماضياً سحيقاً لكن تاريخه قصير جداً".

ويقصد بذلك أن أفكار علم النفس ومواضيعه قد طرحت وعولجت منذ أقدم العصور، لكن هذا العلم لم يصبح علما مستقلاً، له منهجه العلمي الخاص وطرائق بحثه الخاصة، إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.



فالتعلم تاريخ طويل ابتداء من تصور أرسطو (384 ـ 322 قبل الميلاد) (Aristotle's) للتعلم على أنّه عملية ربط أو اقتران والفكرة الرئيسة في ربطية  أرسطو (Aristotle's)  أن المعرفة والعقل يتكونان من إحساسات إنسانية تتشابك معاً عن طريق الترابط.

ولا تتوافر لدى الكائنات أي معرفة فطرية فهي تولد وعقولها صفحة بيضاء تخط عليها البيئة ما تشاء.

وتتكون المعرفة من الإحساسات الأساسية كالأصوات، والمرئيات والروائح وإحساسات البرودة والدفء ثم الربط بينها عن طريق العملية الميكانيكية الكاملة التي تتمثل في  التأكد من أنها تحدث معاً وفقاً لقوانين الربط أو الاقتران وهي الآتية:

  1. قانون الترابط عن طريق الاقتران، أو التجاور الزماني أو المكاني.
  2. قانون الترابط عن طريق الاقتران أو التجاور على أساس الاختلاف، التضاد أو التشابه.

وهكذا تتكون الأفكار المركبة من الأفكار البسيطة بالعملية الميكانيكية نفسها كما يمكن للمعرفة أن تصبح على درجات من التعقيد والخصوبة بقدر ما يشاء المرء من جراء الربط وحلقاته المتعددة المستويات.

لقد كانت فكرة أرسطو (Aristotle's) عن الترابط (الاقتران) في واقع الأمر نظرية في الذاكرة وخاصة ما يتصل باستدعاء أشياء تعرضنا لها في الفقرة السابقة.

إلا أن مجموعة من الفلاسفة البريطانيين أطلق عليهم اسم (الفلاسفة التجريبيين) تناولوا أفكار أرسطو (Aristotle's) وحولوها إلى ما يشبه علم نفس (حقيقي). وبصورة أدق إلى علم نفس يتضمن التعلم واكتساب الخبرة لكونهما من مكوناته.

وقد ظهرت أعمال هؤلاء في الفترة من (1850 – 1650) مثل:

 هوبز توماس هوبز (Thomas Hobbes) (1588-1679) وجون لوك (John Locke) (1704 – 1632)

ولم تضيف الربطية شيئاً إضافياً على ما قدمه أرسطو (Aristotle) حتى جاء دافيد هيوم David) (Hume (1711–1776)

فقد طبق هيوم (Hume) اتجاهاته التحليلية على المبدأ الذي اكتشفه وضمه إلى الربطية أي (مبدأ السببية). ووجد أن العلة والمعلول لا يظهران كفكرة إلا إذا كانت الصلة (السبب) مجاورة إلى المعلول (النتيجة) وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الصلة متبوعة دائماً وأبداً بالمعلول. والعلة والمعلول غير موجودين في نظر هيوم (Hume) في الأشياء الملاحظة المرتبطة بالحواس بل هما موجودان في عقل الملاحظ فقط.

 أما الربطية الحديثة فقد تأسست في القرن الثامن عشر الميلادي على يد الفيلسوف دافيد هارتلي (David Hartley) (1704-1757) وقد قدمت خطوة نحو التوجه من الفلسفة إلى السيكولوجية العلمية.

فقد كان العالم المجرب الألماني هيرومان ابنغهاوس (1850 - 1909م) علامة بارزة في تاريخ الربطية كما في تاريخ السيكولوجية العلمية.

فقد كان أول عالم نفس يقوم بدراسة معمقة للترابط أو للتعلم، على الرغم من أن همه الأساسي كان الذاكرة، وقد نشر أول دراسة مخبرية علمية منهجية للذاكرة عام 1885م.

ولقد تنوعت المناحي العلمية المبكرة في علم النفس تبعاً لتنوع الأقطار وتنوع اهتمامات علماء النفس فيها وأولويات ثقافة كل بلد.

وانتقلت الربطية إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن 19 الميلادي واندمجت مع التقليد الخبري والطرائق التجريبية التي ابتدأها في ألمانيا ولهم فنت (Wilhelm Wundt) (1832-1920)  والذي يعد الأب لعلم النفس الحديث ومؤسس المدرسة البنيوية (Structuralism) في علم النفس المؤسس حيث افتتح أول مختبر لعلم النفس عام 1879م في جامعة ليبزغ.

ومن التجارب التي أجراها فنت Wundt)) مع اثنين من تلاميذه: تجربة قياس الزمن الفاصل ما بين سماع المفحوص للصوت واللحظة التي يضغط فيها على مفتاح التلغراف كإشارة على سماعه الصوت. كانت هذه التجربة محاولة لقياس السلوك الإنساني عبر مقياس فسيولوجي. هذه التجربة حول عمل الدماغ من حيث إنها تقيس كمية الزمن اللازم للدماغ والجهاز العصبي لترجمة المعلومة إلى فعل. فأعلن بذلك أن العلميات المعرفية يمكن أن تدرس كمياً أي يمكن أن تقاس.

وتجربة وَصْفُ ثلاثة أبعاد مختلفة للشعور: السعادة / الشقاء، التوتر/ الاسترخاء، الحيوية / الاكتئاب. تركزت أبحاثهم على استكشاف العناصر الأساسية أو عمليات الوعي فكانوا بذلك مؤسسي البنيوية. وقد اعتمدوا طريقة الاستبطان (Introspection) ومفادها أن يطلب من المفحوص الانكفاء على ذاته وتأمل ما يجري في داخله من عمليات عقلية كرد على موقف أو مثير تلقاه.

إنّ إمكانية دراسة السلوك الإنساني واختباره من خلال الطرائق العلمية لم تبدُ ممكنة قبل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث يُعَدُّ إنشاء مختبر لعلم النفس على يد فونت (Wund) 1879م هو نقطة تحول بارزه في علم النفس بوصفه علماً. فمنذ هذه النقطة أصبح التطور في الطريقة العلمية في البحث في إطار علم النفس يسير بمعدلات ونسب مضطردة وسريعة.

فالتطور في علم النفس، كبقية العلوم الأخرى، يعتمد على اكتشاف حقائق جديدة عن السلوك الإنساني، حيث عمل علماء النفس عبر المراحل المختلفة لتطوير علم النفس على إبتكار طرائق جديدة للتوصل إلى الحقائق وهي طرائق البحث العلمية والمنهاج العلمية في البحث العلمي في العلوم النفسية وتعد الطريقة التجريبية (Experiment al Method) في البحث العلمي في العلوم النفسية أحد أهم الطرائق التي ساهمت في تطوير العلوم النفسية، كما عملوا على تكييف وتطبيع الطرائق القديمة لتصبح أكثر دقة وأكثر صدقاً وثباتاً في دراسة الظاهرة النفسية والسلوك الإنساني.

ولهذا قام العديد من علماء النفس بمحاولات جادة لتفسير سيكولوجية التعلم، استناداً إلى البيانات والنتائج التي أسفرت عنها البحوث التجريبية وغير التجريبية، وتمخضت هذه المحاولات عن عدد من النظريات المتنوعة، كان لبعضها أثر هام في علم النفس التربوي المعاصر على المستويين النظري والتطبيقي، وتُعَدُّ هذه النظريات محاولات منهجيّة منظمة، تهدف إلى تركيب النتائج التجريبيّة التي تناولت ظواهر التعلم، في إطار نظري ذي معنى، يُفسّر أو يُسهل تفسير الجوانب المتنوعة للسلوك.

وقد اتسم هذا المذهب التجريبي في أمريكا بالطابع العملي والاهتمام بوظيفة السلوك وفائدته ومنفعته - وخاصة في التربية، وإن الاستقصاء العلمي لعملية التعلم والتي بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر على يد العالم الروسي الشهير إيفان بافلوف Ivan Pavlov)) (1849– 1936) في روسيا والعالم الأمريكي ثورندايك Edward Lee Thorndike)) (1874 –1949) في أمريكا. وما زالت مستمرة مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وكان من نتيجة ذلك ظهور نظريات المثير والاستجابة ذات الاتجاه السلوكي عند واطسن (John  Broadus Watson) (1958–1878) ومن ثم عند سكينر Burrhus Frederic Skinner)) ( 1904 – 1990 ) وغيرهم، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا ونحن مع بدايات القرن الحادي والعشرين، ليجد الكثير من النظريات والتفسيرات والنماذج التي تحاول تفسير عملية التعلم وتشرح طبيعتها.

وعلى الرغم من تنوع النظريات التي حاولت تفسير طبيعة التعلم وتعددها، إلا أن أيَاً منها لا يمكن قبوله على نحو مطلق أو نهائي. لأن هذه النظريات مازالت قاصرة عن تقديم إطار نظري شامل ومقنع، تتوافر فيه إمكانية تفسير جوانب السلوك كافة. فنظريات التعلم ليست إلا مجموعة من الأفكار أو الآراء المتّسقة بشكل معقول، والموحية بمنظور سيكولوجي نظري، يمكن استخدامه على نحو معتبر لدى بحث المشكلات التربوية. لهذا نستخدم مصطلح "نماذج" عوضاً من مصطلح "نظريات"، ونعني بالنموذج مجموعة من المبادئ الموجهة التي تزودنا بإطار يمكننا من فهم طبيعة سيكولوجية التعلم وتفسير الأنماط السلوكيّة المتنوعة. وفي ضوء الحالة الراهنة من عدم اليقين الذي يشوب نماذج التعلم المختلفة، من المستحسن الاحتفاظ بفكر مفتوح، واستخدام هذه النماذج إلى الحد الذي تزودنا به ببعض الاستبصارات حول طبيعة التعلم وتطبيقاته في غرفة الصف (Hulse et al,1975).

يختلف هذا النوع من الاستبصار أو الفهم عن عملية التمكن من القواعد والإجراءات المحددة، فالمبادئ العامة التي تنطوي عليها نماذج التعلم غير قابلة للتطبيق بشكل محدد وعلى أوضاع محددة، بل تتصل على نحو وثيق بمدى واسع من الحوادث والأنماط السلوكية، ولعل هذا يشكل جانب قوة في النماذج التعلميّة، لأن معرفة القواعد والإجراءات التفصيلية المحددة، والقابلة للتطبيق على أوضاع محددة، لا تساهم كثيراً في إيجاد حلول لمشكلات جديدة، لا تعرف القواعد المحددة الخاصة بها. لذا فإن نماذج التعلم التي سنتناولها، لن تزودنا بقواعد وتعليمات تفصيلية يقتصر استخدامها على أوضاع أو حالات خاصة فقط، بل ستزودنا ببعض المبادئ الأكثر عمومية وشمولاً، والتي يمكن الاستفادة منها على نحو أوسع وأشمل.

 

ولدى البحث في نماذج التعلم المختلفة يجدر الانتباه إلى النقاط الثلاث الآتية:

1. لا تستخدم نماذج التعلم لغة أو مصطلحات واحدة على نحو ضروري، للدلالة على ظواهر تعلميّة واحدة، فقد تتحدث النماذج عن ظاهرة واحدة بلغات ومصطلحات مختلفة، لذا يجب الحذر من الغموض الذي قد يفرضه استخدام المصطلحات المتعددة، كما يجب تعلم هذه المصطلحات واستخدامها على نحو مناسب.

2. لا تتفق النماذج فيما بينها لدى تفسير الكثير من ظواهر التعلم وموضوعاته، وقد تكون مواضع الخلاف أكثر شيوعاً من مواضع الاتفاق، حتى بالنسبة إلى بعض المسائل الواقعية، فنماذج المثير والإستجابة، ترى على سبيل المثال، أن تنظيم المثيرات البيئية، كالمادة التعلمية والتعليمات وطرائق الإثابة أو التعزيز، بشكل مناسب أو طريقة معينة، يُمكّن الطفل من أداء مهمة تعلميّة ما، إذا كانت حصيلته التعلميّة السابقة مناسبة. أما النماذج المعرفيّة، فترى أن الطفل لن يكون قادراً على أداء هذه المهمة، على الرغم من التنظيم المشار إليه، إلا إذا بلغ الطفل مستوى معيناً من النمو.

3. تؤكد بعض النماذج التعلميّة على بعض الموضوعات وتوليها جلّ اهتمامها، في حين تهمل أو تتجاهل نماذج أخرى مثل هذه الموضوعات. فمفهوم "الدافعية" أو "البنيّة العقلية"، تؤكد عليهما بعض النماذج المعرفيّة، وتهملهما بعض نماذج التعلم الأخرى التي تنطوي تحت لواء نماذج المثير والاستجابة (Rohwer et al ,1974).

 هذا وسنتناول في هذه السلسلة من المقالات بعض أهم النماذج التعلميّة التي تركت أثراً كبيراً في ميدان التعلم، وهي تزودنا ببعض المبادئ الواضحة التي يمكن تطبيقها على الأنماط المختلفة للسلوك الصفي، وتساعدنا لدى معالجة العديد من المشكلات التربوية.

 

وهذه النماذج هي:

  • النموذج الأول: التعلم الاستجابي الاشراط الكلاسيكي (Classical Conditioning).
  • النموذج الثاني: التعلم الارتباطي أوالرابطيّة (Connectionism).
  • النموذج الثالث: التعلم الاقتراني .(Contiguity Learning)
  • النموذج الرابع: التعلم الإجرائي - الإشراط الإجرائي .(Operant Conditioning)
  • النموذج الخامس: التعلم بالملاحظة والنمذجة .(Observational Learning)
  • النموذج السادس: التعلم ذو المعنى .(Meaningful Learning)
  • النموذج السابع: التعلم المستند إلى الدماغ.

 

ويمكن الاستفادة من هذه النماذج في تفسير التغير في سلوك المتعلم. فأربعة من هذه النماذج أكدا على تكوين العلاقة بين المثير والاستجابة والنموذج الخامس والسادس  أكدا على التغير في الأبنية المعرفية والذي يتم عبر تعلم يحدث من خلال ملاحظة سلوك الآخرين أو من خلال مشاهدة الأطفال لمظاهر العنف في وسائل الإعلام. النموذج السابع هو ذلك الذي يؤكد على أن التعلم يستند إلى مبادئ الدماغ ويتضمن نماذج التعلم بالمشكلات والتعلم بالحل الإبداعي للمشكلات.

استنداً إلى النظرية السلوكية. فالعلماء السلوكيون يؤكدون على أن السلوك الملاحظ والقابل للقياس هو مجال دراساتهم وليس العمليات العقلية، إن الحوار بين هؤلاء العلماء جعل من التعلم الموضوع الرئيس لهم.

إن مصطلح "السلوكي"  (Behaviourist) قدَّم إلى المنظرين والباحثين عدداً من الأفكار ووجهات النظر نذكر منها: المنهجية السلوكية ومفادها أن الأحداث الملاحظة والقابلة للقياس هي التي تدرس بتعبير آخر البيئة وأفعال الفرد، ولكنهم أحياناً يستخدمون تلك الملاحظات للتدخل في الأحداث الداخلية للفرد، هذه الأحداث التي عرفت باسم المتغيرات الدخيلة (Inter – veining Variables) وهي أشياء لا نستطيع ملاحظتها مباشرة مثال ذلك:

الحرمان من الطعام  مثير للجوع  متغير دخيل تزايد امتصاص البروتين استجابة ملاحظة

وبالمثل يمكن استخدام متغيرات من مثل: العطش، والرغبة الجنسية، والغضب، والخوف...الخ.

إلا أن نفراً من علماء السلوكية أنكروا أن المتغير الدخيل هو المسؤول عن السلوك. فبدلاً من أن نقول إنّ الحرمان من الطعام يؤدي إلى الجوع والذي يؤدي بدوره إلى تناول الطعام. نقول إنّ الحرمان من الطعام يؤدي إلى تناول الطعام. وقد عرف هؤلاء العلماء باسم السلوكيين المتطرفين (Radical Behaviourists) وبذلك قدموا محاولة لتفسير السلوك تعتمد على معادلة: مثير استجابة.

 

وانتهى السلوكيون إلى تقديم عدد من الافتراضات نذكر منها:

  • الافتراض الأول: الحتمية (De-terminism)
  • الافتراض الثاني: عدم فعالية التفسيرات العقلية (Ineffectiveness of Mental Ex-plantation) (الدافعية، الإنفعالات، الحالات العقلية(.
  • الافتراض الثالث: قوة البيئة في تشكيل السلوك.

وسنتناول نماذج التعلم هذه واحداً واحداً بشيء من التفصيل معرفين بالنموذج ومفاهيمه الأساسية وتطوره وتفسيره لعلمية التعلم وتطبيقاته التربوية. وأخيراً تقويمه من حيث أدائه الأفضل للوظائف المنوطة به.