معلم مثقف أم معلم ملقن؟

لطلاب يرتاحون كثيراً إلى المُعلِّم المثقف الذي يسعى دائماً إلى تطوير نفسه، والذي يلجأ إلى التنويع في أساليبه من حوار ونقاش ونقد بعيداً عن جو التسلط والدكتاتورية.  فلو اتبع كل مُعلِّم الأساليب آنفة الذكر لتخلص من الكثير من المتاعب والمشاكل، علاوةً على أنّها تعمل على تقليل الفجوة بين المُعلِّم والمُتعلِّم.



ثمة فرقٌ كبيرٌ بين المثقف والمُتعلِّم، والمقصود بالمثقف هنا ليس كل من يطالع الكتب، بل هو كل من يمارس ما فيها واقعاً في حياته. على أية حال، لن يكون الأمر معقداً ما دامت الفكرة حاضرة في ذهني وأنا أتعايش وإيّاها يومياً. في البداية لا بد لكل معني أن يتساءل: ما الدور الرئيس للمُعلِّم؟ متى يكون المُعلِّم مثقفاً؟ ومتى يكون تقليديا؟ من الذي يحكم في هذا الشأن؟

 

بما أنّني مُعلِّم أرى أنّه يجب أن يكون المُعلِّم هو أول من يتساءل ويطرح هذا الموضوع.  ولو سألني سائل عن سبب تشاؤمي لعللت ذلك وبكل بساطة بأن مدارسنا أصبحت لا تستقطب الفئات المميزة للعمل في ميدان التربية، فلا يهم إذا كان المُعلِّم مثقفاً أو غير مثقّف، لكن المهم أن تكون عنده القدرة على إدارة صفّه بغض النظر عن الوسيلة التي يستخدمها لتحقيق ذلك.

 

للأسف أصبح المقياس الذي يقاس به المُعلِّم في مدارسنا اليوم خاطئاً. أصبح كمياً لا نوعياً. فمنذ متى أصبحت الكمية هي التي تحدد المستوى الثقافي للمُعلِّم؟ أليس هذا إجحافاً بحق كل مُعلِّم مثقف، وبخاصة إذا كان هذا المُعلِّم واسع الخيال، ويأتي بالكثير مما هو خارج المنهاج، ومن ثمَّ يكون قد فاته قطار السرعة للوصول إلى المحطة (الوحدة)، لكي يستقل قطار الأنفاق السريع ولا تفوته استراحة الوحدة التالية بعدها، وينال إعجاب زملائه ومديره بوصفه مُدرِّساً للغة الإنجليزية، لا أؤمن بالكم والكمية، وبخاصة أنّ مناهج اللغة الإنجليزية الجديدة ضخمة وتحتاج إلى مدة أطول.

 

للأسف، فقد وجد الكثير من المُعلِّمين المعنيين أقصد (مُعلِّمي اللغة الإنجليزية) ضخامة المنهاج حجة وشماعة يعلقون عليها كل حججِهم التي يكون الطالب ضحيتها. فمن وجهة نظري لا أرى أنّ ضخامة المنهاج مشكلة إذا كان المُعلِّم على درجة من الوعي والثقافة، ويجيد التعامل وهذا المنهاج.

 

وبالعودة إلى موضوع الكم والكيف والجودة، نقول لقد أصبح حال بعض المُعلِّمين كحال ربة البيت التي تكون منهمكة في أعمالها البيتية، بحيث يكون همها الأكبر هو إعداد وجبة الغداء قبل أن يعود أولادها من المدرسة. فمرّة تكون الوجبة مالحة، ومرة أخرى تخلو من الملح، وذلك بسبب عجلة التحضير، لتكون الوجبة جاهزة في موعدها. فهناك من المُعلِّمين من هو على درجة عالية في عجلتها في السلق والطهي، بحيث لا يترك المجال لطلابه لتذوق وجبته أو حتى إعطائهم المجال لإبداء رأيهم والتعبير عنه بحريَّة. فعندما تم طرح مناهج اللغة الإنجليزية الجديدة لصفي العاشر والحادي عشر، ثار المُعلِّمون وغضبوا متذرعين تارةً بضخامة المنهاج، وتارةً بعدم ملاءمته مستوى الطلاب.

 

لا اتفق مع هؤلاء في وجهات النظر هذه على الإطلاق، ليس لأنني خبير في وضع المناهج، بل لأنني لا أجيد الطهي والسلق، وذلك لأنّ ضخامة المنهاج لا يعني لي شيئاً، ولا أبالي بالكم، وإنما بالجودة والكيف. فهل درس المُعلِّمون الموضوعات التي يتناولها المنهاج في الصفين الأنف ذكرهما؟ لا اعتقد ذلك، لأنّه لو تم ذلك بالفعل لما تسرع هؤلاء المُعلِّمون في إبداء وجهات نظرهم. فكيف لمُعلِّم أن يدرس وحدة عن الديمقراطيَّة باللغة الإنجليزية إذا لم يكن لديه القدرة على التحدث عنها بالعربية، وممارستها واقعاً في العملية التربويَّة. الحال نفسه بالنسبة إلى المُعلِّم الذي لا يطيق تدريس وحدة عن التكنولوجيا إذا لم تكن لديه القدرة على استخدام الحاسوب وتوظيفه مثلاً.

 

وكأنّ مهمة تدريس موضوع ما عن التكنولوجيا أو الحاسوب هي من تخصص مُعلِّم الحاسوب فقط، وما الضّير في أن يكون لدى جميع المُعلِّمين المقدرة على التعامل والحاسوب، ومن ثمَّ إفادة طلابهم في هذا المجال. أعتقد أنّ التكنولوجيا فتحت الباب واسعاً أمام المُعلِّمين لتطوير أساليبهم وقدراتهم التي تُمكِّنهم من الخروج من دائرة الأساليب التقليديَّة.

 

وكمثال على وجهة نظري في هذا المجال، لا بد لي من أن أتحدَّث عن تجربة شخصيَّة مع منهاج اللغة الإنجليزية الجديد للصف الحادي عشر.  فعندما وقع نظري على غلاف هذا الكتاب انشرح صدري، وغمرني شعور ممزوج بالفرحة عندما تصفحت عناوين الموضوعات التي يتضمَّنها، وبخاصة رواية "سيلس مارنر"، التي أعدُّها من أروع ما يتضمَّنه الكتاب. فهذه الرواية تشجع الطالب على التفكير والتحليق عالياً في سماء الخيال الواسعة، وتعطيه المجال أيضاً في تكوين فكرة ووجهة نظر منفردة مبنية على النقد والتحليل والتساؤلات. فقبل فترة وجيزة دعت مديريَّة التربية في منطقتنا مُعلِّمي اللغة الإنجليزية الذين يدرسون منهاج الصف الحادي عشر الجديد إلى دورة مدّتها ثلاثة أيام لمناقشة الرواية. وقد أُصبت بخيبة أملٍ كبيرةٍ عندما سمعت آراء المُعلِّمين حول الرواية وجدوى تدريسها في المدارس. فمنهم من حكم عليها بعدم ملاءمتها للفئة العمريَّة المستهدفة، ومنهم من جاء إلى الدورة دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن أحداث الرواية وشخوصها، وكل ذلك في نطاق الأحاديث الجانبية وقبل الخوض في مناقشتها.

 

وعندما بدأت فعاليات الدورة ظهر الإعياء واضحاً على وجوه بعض الحاضرين، وأخذوا ينظرون إلى ساعاتهم ويتهامسون. فمنهم من تمنى لو أنّه بين عائلته ويتناول وجبة الغداء بدلاً من تضييع وقته في مناقشة أمور تافهة، ومنهم من ناقش مشكلاتهم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، محدثين جواً من الفوضى. في أثناء ذلك كله، كنت من بين القليل ممن اهتموا بالمناقشة والحوار، وكان الأمر يعني ثلةً من المُعلِّمين فقط، ناهيك عن الإزعاج الذي أحدثه هؤلاء المُعلِّمون. لقد كنت مهتماً كثيراً بمعرفة تفاصيل الرواية من شخوص وحبكة وأحداث وتحليلات إلى غير ذلك من الأمور، لكي أعود في اليوم التالي بعده وأفيد طلابي بالأمور التي علقت في ذاكرتي من النقاش. ولقد رأيت الفرق بين مدى قابليَّة الطلاب لاستيعاب درس أو موضوع من القواعد (التي لم تتغيَّر منذ أن بدأ هؤلاء الطلاب بتعلم الإنجليزية) وجزء من الرواية المعنية، لدرجة أنّ الطلاب كانوا متشوقين جداً لمعرفة ما هو جديد في أحداث في الرواية.

 

وقد قمتُ باستفتاءٍ للطلاب كدليل على ما أقول، ووجدت أنّ معظمهم يفضل الرواية على القواعد والموضوعات الأخرى. وعندما سألتهم عن السبب كانت معظم الإجابات متقاربة وهي "أنّ المجال في الرواية أوسع، وأن الرواية تشجعهم على التعبير عما يجول في خواطرهم، وبكل حريَّة". وهذا يدفعني إلى التساؤل مجدداً: أليس هذا من حق طلابنا؟ ألا يحق لطلابنا أن يكونوا قادرين على تكوين آرائهم الشخصيَّة بعيداً عن روتين المدرسة والتلقين؟ وكيف يحدث ذلك كله إذا لم يتوافر المُعلِّم المثقف الواعي الذي يعامل طلابه بطريقة ديمقراطيَّة، ويتيح لهم الحريَّة في التعبير عن آرائهم دون خوف أو قلق؟

 

إنّني على ثقة بأن الطلاب يرتاحون كثيراً إلى المُعلِّم المثقف الذي يسعى دائماً إلى تطوير نفسه، والذي يلجأ إلى التنويع في أساليبه من حوار ونقاش ونقد بعيداً عن جو التسلط والدكتاتورية.  فلو اتبع كل مُعلِّم الأساليب آنفة الذكر لتخلص من الكثير من المتاعب والمشاكل، علاوةً على أنّها تعمل على تقليل الفجوة بين المُعلِّم والمُتعلِّم.

 

لذلك أرى أنّ رواية "سيلس مارنر" فرصة نادرة، ويجب اغتنامها، لما للأدب من أثرٍ إيجابي كبير في كل من الطالب والمُعلِّم. وأتمنى من واضعي مناهج اللغة الإنجليزية أن يعملوا على إدخال المزيد من الموضوعات التي تعمل بدورها على تعزيز أساليب الحوار والمناقشة، ومن ثمَّ تنشئ جيلاً قادراً على الدفاع عن حقوقه بأساليب حضاريَّة ومقنعة. وأتمنى كذلك من مُعلِّمي اللغة الإنجليزية في مدارسنا الابتعاد عن تحميل الطلاب المسؤوليَّة في استيعابهم وقابليَّة فهمهم لها.

 

فضل جبران