معلـمٌ‮ ‬يبحثُ‮ ‬عن‮ ‬ذاته ‮(‬إزاحات‮ ‬متلاحقة‮)‬

أين هي الهوية التي أبحث عنها؟ إنّني متأكدٌ من أنها ليست في المُعلِّم وحده، ولا في السياسي وحده.  ومع ذلك، جربت أن أكون مُعلِّماً سياسياً في المدرسة، وسياسيا مُعلِّماً في المجتمع، إلا أنني ما زلت أشعر بأنّ شيئاً ما ينقصني ربما سأجده في محطة لاحقة



هذه شهادةٌ ذاتيَّة تؤرخ لصيرورة مهنيَّة واجتماعيَّة لمُعلِّم يحاول دائماً البحث عن ذاته، ولأنني اعتقد أنّ كلام الذات من أصعب الأمور في مجتمع منغلق على ذاته، فكلي أملٌ في أن أقترب من الحقيقة في سرد هذه الحكاية.

 

  • المحطة الأولى: مُعلِّم بلا هوية:

قبل ست سنوات دخلت المدرسة مُعلِّماً لأول مرة، مرعوباً من فكرة الوقوف أمام طلاب يقاربونني سناً. لكن ما كان يرعبني أكثر أنني أعود إلى هذه المدرسة مُعلِّماً جنباً إلى جنباً مع المُعلِّمين الذين علموني، وكنت أخشاهم وأخاف الوقوف بين أيديهم قبل أربع سنوات من هذه اللحظة. لقد لاحظ الزملاء ارتباكي وقلقي الشديدين، فسارعوا إلى إسداء النصائح التي تسعف في تجاوز محنة اليوم الأول:

أحدهم تبرع لي بدفاتر تحضيره، وآخر زودني بخرطومٍ أسود لأغراض فرض السيطرة، والمدير حذرني من فكرة التراخي أمام الطلاب، وضرورة أن أتجاوز اختبار اليوم الأول بنجاح. وأخيراً نجحت في اليوم الأول وفق المعايير التي رسمها الآخرون لي، وفرضت سلطاتي على الصف.  يوماً بعد يوم بدأت اكتشف سحر العلاقة التي تسيّر المدرسة: أن تكون مُعلِّماً ناجحاً يعني أن تكون مفتول العضلات.

 

هذه هي معايير المدرسة التي وجدت نفسي منخرطاً فيها، ولكن هل تستمر الحياة على هذه الوتيرة؟

إنّ أجمل ما في الحياة أنها دائماً تمدنا بالفرص التي تغيرنا، وترسم لنا مسارات التغيير. ذات يوم، جاء إلى مدرستنا زميل ضعيف البنية قصير القامة، وما أن وصل أثار موجة من التساؤلات الساخرة عن مدى إمكانية نجاحه في هذه المدرسة الموصوفة بالشغب، ولكن ما حدث فاق كل التوقعات. إذ لاقى ترحيباً منقطع النظير من قبل الطلاب. وأحبوه كما لو أنّه هدية سقطت عليهم من السماء، وطوال عام لم يحدث أن ضرب طالباً. وذات يوم سألته عن سر علاقته بطلابه، فأجاب بكل ثقة "أن تكون مُعلِّماً يعني أن تكون مختلفاً".

 

وهكذا تعلمت على يد هذا المُدرِّس أول درس في الهوية وهو الاختلاف. وتعلمت منه أن التشابه والنسخ والتكرار يجتث كل إمكانيات للنماء والتطوُّر.

 

  • المرحلة الثانية: مُعلِّم يبحث عن دور مجتمعي:

بعد سنة من العمل المدرسي سأكتشف أنّ المدرسة التي شكلت الجانب المهني من هويتي بصفتي مُعلِّماً لم تمنحني الفرصة كي أكون عضواً فاعلاً في المجتمع. وفي هذه المرحلة بالتحديد، ألحّ عليَّ السؤال الاجتماعي إلحاحاً عجيباً، لكنّ أسوار المدرسة كانت منيعة أمام العبور الاجتماعي منها وإليها. حينها قررت أن أشق مساراً جديداً عبر الحزب السياسي. وهكذا حملت هويتين، في الصباح هوية المُعلِّم، وفي المساء هوية السياسي. أنظر وأنظم وأكتب التقارير الحزبية وأرفعها إلى المسؤولين. وبعد فترة، أصبح في غرفتي خزانتان، الأولى فيها دفاتر التحضير على قلتها وخطط الدراسة والكتب المدرسيَّة وأوراق امتحانات التلاميذ، والثانية فيها بيانات حزبية وتقارير ومحاضر اجتماعات. إنها مفارقة تضعني أمام سؤال كبير: ما الفرق بين المدرسة والحزب السياسي؟

 

هذا السؤال الذي لا يحتمل إلا إجابة واحدة لا غير: المدرسة تنسخ تلاميذ متشابهين، والحزب السياسي ينسخ سياسيين متشابهين. إذاً، أين المفر؟

 

أين هي الهوية التي أبحث عنها؟ إنّني متأكدٌ من أنها ليست في المُعلِّم وحده، ولا في السياسي وحده.  ومع ذلك، جربت أن أكون مُعلِّماً سياسياً في المدرسة، وسياسيا مُعلِّماً في المجتمع، إلا أنني ما زلت أشعر بأنّ شيئاً ما ينقصني ربما سأجده في محطة لاحقة.

 

  • المحطة الثالثة: مُعلِّم يبحث عن دور ثقافي

في العام (2005)، وبينما كنت في غمرة البحث عن الحلقة المفقودة في هويتي، همس في أذني صديق اعتنق الثقافة قائلاً لي: "ما رأيك أن تنضم إلى منتدى الحوار التربوي".

 

رحّبت بالفكرة، ولكن دون الطاقة الانفعاليَّة الكافية لخوض فكرة الانخراط في المنتدى، لقد اعتقدت بأن المنتدى سيكون نسخة موازية للمدرسة. فبقيت بعيداً عنه أتسقط أخباره من بعيد، إلى أن أتيح لي حضور ندوة ثقافيَّة نظمها المنتدى ولقد كانت هذه الندوة واحدة من المحطات المهمة في حياتي. فمن جانب، كانت الندوة الثقافيَّة الأولى من نوعها في بلدتي التي نذرت حياتها للسياسة. ومن جانب آخر، جعلتني أكتشف أن بين المُعلِّمين من هم بحق مثقفون. وهكذا بدأت أستدخل السؤال الثقافي إلى هويتي.

 

لقد انخرطت في المنتدى بشكلٍ قوي، إذ رأيت فيه الأمل الذي يمكن أن يوحد الفرقاء السياسيين.  ولكنّ الأهم على الصعيد الشخصي أنّ المنتدى بصفته محطة تغيير، فتح لي أبواباً تشق ما هو تعليمي على ما هو سياسي واجتماعي وثقافي. فالمنتدى، عبر فعالياته وحواراته، منحني تلك الخاصية الفريدة في النظر إلى الأشياء من حولي من زوايا عدة. وعلمني أنّ الأشياء تتغيَّر بتغيُّر موقعي منها وزاوية النظر إليها.

 

فمثلاً، سؤالي القديم الذي طرحته على نفسي في أول مداخلتي: "لماذا لم تكلفني المدرسة القيام بدور اجتماعي فاعل؟". هذا السؤال تحول الآن إلى نحو مختلف: "كيف أساهم أنا بصفتي مُعلِّماً في منح المدرسة بعداً اجتماعياً". ربما سأجد الجواب في المحطة الآتية.

 

مُعلِّم مشغولٌ بأسئلة الحياة الدراما والمسرح والسينما طريق للعبور، واحدةٌ من أهم المحطات التي عبرتها مُعلِّماً، وهي جديرة بالتأمل والمراجعة، هي الدراما والمسرح.

 

قبل سنتين من الآن لم يكن لي سابق تجربة في هذا المجال، باستثناء مشاهداتي التلفزيونية للمسرحيات التي عادة ما تعرض بهدف التسلية، ثم أتيح لي الاحتكاك عبر تجارب قدمها مركز القطان في مجال الدراما والمسرح.

 

ونتيجة انخراطي بشغف في هذه التجارب، اكتشفت الإمكانات الهائلة التي تحملها الدراما والمسرح في مجالات التعليم والحوار المجتمعي. بعدها، خرجت بانطباع قوي وهو أنّ الدراما والمسرح، بشكلٍ عام، تجسيد للحياة بكل ما تنطوي عليه في مجال التعليم والسياسة. وإنّني أُلخص هذه التجربة بعبارة "ما حياتنا إلا دراما يؤدي فيها البشر أدواراً".

 

إنّ حياتنا مُمسرحة، في البيت، والشارع، والمؤسسة. بعد كل هذا، وجدت نفسي مندفعاً بقوة نحو تأسيس مسرح للفتيان. كان الهدف منه مقاربة قضايا التعليم والمدرسة بوساطة تقنيات درامية، وإيجاد متنفس للطلبة كي يعبروا عن وجهات نظرهم في كل المجالات. وقد وجدت نفسي سعيداً جداً بهذه التجربة، فقد جاء المجتمع إلى المدرسة، وارتحلت المدرسة إلى المجتمع على خشبة المسرح.

 

وعلى الرغم من قصر تلك التجربة مع الدراما والمسرح، فإنّني الآن بت على يقين بأنني أصبحت مختلفاً تماماً عما كنت عليه من الإرباك والقلق. وأنا ممتن لهذه التجارب التي كونتني، حيث وجدت ضالتي المنشودة، وتبدت لي آفاق ما كنت أصل إليها لولا هذه التجارب.

 

فؤاد اطميزي

مدرسة ذكور إذنا الثانوية