مشاهد من الهداية النبوية، وريادتها في استخدام التقنيات التربوية

لا يمكن الحديث عن التربية والتعليم والتعلُّم والبحث العلمي ومشكلاتها دون الحديث عن التقنيات التربويَّة والوسائل التعليميَّة بكونها ركيزة هامة في تلك المنظومة. فالمُربّي (المُعلِّم) الباحث الناجح كما يراه كثيرون هو الذي يحسن استخدام هذه التقنيات



عبر تاريخ البشر الشفاهي، والكتابي، والمعلوماتي، شكّلت التقنيات التربويَّة والوسائل التعليميَّة عموداً فقرياً قامت عليه عمليات التربية والتعليم والتعلُّم والبحث العلمي. وحديثاً، ثمّة علومٌ تُدرس، وأبحاث تُجرى، ودورات تُعقد، ونظريات تُنشر، وشركات تُنفذ، ومُعدات تُنجز، وميزانيات تُخصص، ومنحٌ داخليَّة وخارجيَّة تُرصد لضمان تفعيل وتطوير استخدام التقنيات التربويَّة، وتعظيم كفاءتها في المنظومة التربويَّة والتعليميَّة. فماذا يُقالُ عن الهداية النبويَّة واستخدامها لهذا المجال في تربية وتعليم الآل والأصحاب وكافة الناس؟

يقول ربنا جل شأنه:" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (الشورى:52).

لا يمكن الحديث عن التربية والتعليم والتعلُّم والبحث العلمي ومشكلاتها دون الحديث عن التقنيات التربويَّة والوسائل التعليميَّة بكونها ركيزة هامة في تلك المنظومة. فالمُربّي (المُعلِّم) الباحث الناجح كما يراه كثيرون هو الذي يحسن استخدام هذه التقنيات، فيثري بها العمليَّة التربويَّة (التعليميَّة) البحثيَّة، فضلاً عن عناصر ومهارات أخرى ينبغي أن يتمتَّع بها في المواقف التربويَّة المختلفة. ومن ثم ينعكس كل ذلك إيجاباً على مُخرجات تلك العلميَّة، فتنضبط المنظومة، وتقل أو تكاد تنعدم مشكلاتها.

وتُعرف التقنيات التربويَّة (Educational Technology) بأنّها: وسائل وطرائق وأجهزة وأدوات ومواد يستخدمها المُعلِّم لتحسين عمليَّة التعليم والتعلُّم.

 أو هي: أسلوبٌ مبرمجٌ في التربية يهدف إلى زيادة فعاليَّة محاور العمليَّة التربويَّة، ورفع كفايتها الإنتاجية وتحديدها خلال إعادة تخطيطها وتنظيمها وتنفيذها.

وثمة تعريفٌ آخر: "بأنّها تلك التقنيَّة التكنولوجيا التي تتناول الدراسة الخاصة بزيادة الأثر التربوي إلى الحد الأقصى بوساطة مراقبة جميع العوامل الممكنة مثل: الهدف التربوي والمواد التعليميَّة والطرائق التربويَّة والبيئة التربويَّة وسلوك المُتعلِّم وسلوك المُعلِّمين والعلاقة المتبادلة بين الطلبة والمُعلِّمين".

 وقد تدّرج المربون في تسميتها فكان لها أسماءٌ منها:
وسائل الايضاح، الوسائل البصريَّة، الوسائل السمعيَّة، الوسائل المعينة الخ. أمّا أحدث تسمية لها هي "تكنولوجيا التعليم" التي تعني: علم تطبيق المعرفة في الأغراض العلميَّة بطريقةٍ مُنظَّمة وهي في معناها الشامل تضم جميع الطرائق والأدوات والأجهزة والتنظيمات المُستخدَمة في نظام تعليمي بغرض تحقيق أهداف تعليميَّة مُحدَّدة. وهذه التقنيات (الوسائل) ليست حشواً لفراغات لا يوجد غيرها لسدّها، بل تقوم بأدوارٍ أساسيَّة في إيصال الرسالة التربويَّة (التعلميَّة) البحثيَّة إلى المُتلقين بأساليب جذابة ومشوقة. حيث إنّها تجعلهم في موقف إيجابي متفاعل مع البيئة التربويَّة، وهي تنقلهم شاؤوا أم أبوا من أشخاصٍ سلبيين إلى أفرادٍ مندمجين ضمن مجالاتٍ من التفاعل المثمر مع العمليَّة التربويَّة التي تمر بهم داخل وخارج غرفة الدرس. ومن المعلوم أنّ عمليَّة التربية (التعليم) والتواصل هي تلك التي يتم عن طريقها انتقال المعرفة من شخص إلى آخر، بحيث تؤدي إلى حدوث نوعٍ من التفاهم بينهما أو أكثر مما يترتب عليه تعديل السلوك، وعناصر تلك العمليَّة:

  • المرسل (SENDER): وهو المُربي (المُعلِّم) المحاضر، ولديه رسالة (فكرة) يريد إرسالها.
  • المستقبل ((RECEIVER: وهم المُتعلِّمون (المُتلقّون)، وحتى يكون المستقبل حسن الاستقبال لا بد له من:
  • راحة نفسيَّة وبدنيَّة.
  • مكان وبيئة مناسبة.
  • أن يشعر بأهمية الخبرات التي تقدم إليه.
  • أن يكون مشاركا للمرسل في نقل الخبرة.
  • الرسالة (MESSAGE): وهي مجموعة من العقائد والقيم والاتجاهات والمهارات والخبرات والعادات التي يراد توصيلها من المرسل إلى المستقبلين ومن صفاتها:
  • مناسبة لمستواهم.
  • تلبّي حاجاتهم ورغباتهم.
  • تعرض عليهم بأسلوب شائق متسلسل المعلومات.
  • تكون كميتها مناسبة للوقت الذي تعرض فيه.
  • يشاركون في الحوار.
  • الوسيلة (MEDIUM): فهي كل ما يساعد المُربي (المُعلِّم) على تبسيط الرسالة لطلابه، وتشويقهم إلى تلقيها، فقد تكون الكلمات من خلال أسلوبٍ سهلٍ وبسيط، وقد تكون بسمته، وحركات يديه وتعبيرات وجهه الخ. وقد تكون كلمةً مكتوبةً على بطاقةٍ أو صورة الخ.


مشاهد من الهداية النبويَّة، وريادتها في استعمال التقنيات التربويَّة إبان حياته الكريمة بينهم، والتي أثمرت حفظ هذا الدين، وإبلاغ رسالة الإسلام للعالمين

كان صلى الله عليه وسلم قدوةً عمليَّة حية "قرآناً يمشي على الأرض". وفي هدايته، وتربيته، وتعليمه، صلى الله عليه وسلم، لأهله وصحبه والناس كافة تنوَّعت وتعدَّدت السُّبل، وفيما يآتي مشاهد ونماذج من هدايته صلى الله عليه وسلم، واستعماله لما يعرف اليوم "بالتقنيات التربويَّة":

  1. التربية والتعليم بضرب الأمثال:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات ما تقولون؟ هل يبقى من درنه؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا" (الشيباتي، أحمد بن حنبل، ج 3، ص: 77).
ويقول: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً" (البخاري)

وروي في الصّحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها" وغيرها الكثير من الأمثال في السنة المُطهرة.

  1. التربية والتعليم بالقصة:

ومن أمثلتها قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم بابه، فدعوا الله بصالح أعمالهم (متفق عليه)، وقصة الأبرص والأعرج والأعمى، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً (متفقٌ عليه)، وأمثالها كثير، ومن أمثلة القصص القصيرة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجلٌ يمشي في طريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فشرب، ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهث ويأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإنّ لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل ذات كبدٍ رطبة أجر" (البخاري، ج8، ص: 16).

وكما في قوله: "لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة" (متفقٌ عليه). وفي رواية لمسلم: "فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". مما يدلُّ على أهمية هذا الأسلوب في إيصال القيم والمفاهيم.

  1. أسلوب التهيئة بطلب الانصات والسماع:

يُستخدم غالباً قبل البدء في إلقاء الموضوع، عن جرير بن عبد الله أن النبيّ (ص) في حجة الوداع: استنصت الناس، فقــال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (البخاري، مسلم، أحمد ـ النسائي، ابن ماجة، الدارمي). يقول الحافظ بن حجر: "وذلك أنّ الخطبة كانت في حجة الوداع، والجمع كثير، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات".

  1. الرسوم التوضيحيَّة:

استخدم النبي صلى الله عليه وسلم "الرّسوم التوضيحيَّة" على هيئة خطوط وزوايا وأشكال في توضيح هدايته إلى قضايا معنويَّة، وتشخيصها، وتبسيطها ومن أمثلة ذلك:

  • رسم يوضح طريقَي الخير والشر: روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا هكذا أمامه، فقال: هذا سبيل الله عز وجل، وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، قال: هذا سبيل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا الآية: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153).
  • رسم يوضح الإنسان وأجله وأمله والأعراض التي تقابله: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: خط النبي خطا مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً، وهذا الذي في الوسط وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به، أو قد أحاط به، وهذا الذي خارج منه أمله، وهذه الخطوط الصغار: الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا" (البخاري، ج8، ص 164).
  • وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطّ رسول الله في الأرض أربعة خطوط)، قال: تدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله (ص): أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون)، ومريم ابنة عمران رضي الله عنهنّ أجمعين".

فالرّسم وسيلةٌ تعليميَّة ناجحة، لأنّه من المسلمات لدى التربويين، كلما زاد عدد الحواس التي تشترك في الموقف التعليمي، زادت فرص الإدراك والفهم، كما أنّ المُتعلِّم يحتفظ بأثر التعليم فترة أطول. وفي هذا الصدد يُقال: (أما الرّسم فإنّه أسلوبٌ تعليميٌّ يجلو الأمر ويوضحه أتم توضيح، وإنّه لمستوى رفيع في التوجيه والإبلاغ أن يكون الرسم أداةً في قوم أميين).

 

المصدر: موسوعة الاعجاز العلمي في القرآن والسنة