رؤية في تعليم الرياضيات

رؤيا في تعليم الرياضيات

في إطار تواصلية المعرفة وتكاملها



مشهد وقضية

يجلس في مقعده أمام سبورة تعج بالرموز والأرقام، وضجيج مُعلِّم يهتف بنظريات وقوانين وتعميمات، يحاول جاهداً أن يهيم في عالم الرياضيات، وأحلام اليقظة تصوره عبقرياً من عباقرتها، يهز رأسه ليبعد عن نفسه شبهة عدم الفهم كلما التقت عيناه عيني أستاذه، على الرغم من المحاولات الجادة لتلافي هذه النظرات، يختلس النظر إلى ساعته، لعل عقارب الساعة تسرع ولو قليلاً، لتنتشله من مأزق الرياضيات، علامات متدنية، فهمٌ مستعصٍ، جهودٌ عابثة، لماذا أتعلمها؟ "ماذا سأستفيد منها؟"، "أمقتها".

وهناك على الطرف الأخر. مُعلِّم محبطٌ، جهودٌ جبارة، وذكاءٌ محكم، ومنهاجٌ يختم، لا يضيع دقيقة، معلومات وفيرة، متسلسلة ومتقنة، خبرة سنوات، وعلى الرّغم من ذلك كله، لا نتائج ولا علامات، بل نفور واتهامات؟ ترى أين المشكلة؟

لن نحاول هنا إعطاء وصفة بأدوية سحريَّة شافية لكل أمراض الرياضيات، وظواهر الإخفاقات والتعثرات، ولكن سنحاول أن ننظر إلى الموضوع بعين التكامل والتواصل والشموليَّة.

 

ومضة تاريخيَّة

لم تكن الرياضيات يوماً، شأنها شأن سائر العلوم، وليدة علم بحت، وبُنى مُجرَّدة، أتت من الفراغ، إنّما جاءت وليدة حاجة حياتيَّة، ومُتطلَّبات ماديَّة، ثم تطوَّرت رويداً رويداً، وتعمقت وتفرعت لتأتي بأشكالها المتنوعة، وفروعها العديدة.

فإذا نظرنا إلى جذور علم الرياضيات، في استعراض تاريخي سريع، نرى على سبيل المثال، أنّ علم المساحة والهندسة والحساب في مصر الفرعونية نشأ تحت ضغط الحاجات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ففيضانات وادي النيل دفعت المصريين القدماء إلى ابتكار طرائق وأساليب هندسية لتحديد مساحات الحقول، وتنظيم الزراعة والري، كما أنّ اهتمامهم ببناء الأهرامات جعلهم يتقدمون في استعمال الخطوط والحساب. وتدلّ بعض الأبحاث الجديدة على أنّ الرياضيات كانت مُتقدِّمة عند البابليين، فلقد استعملوا الحساب والهندسة في دراسة حركات الكواكب والنجوم وقياس الزمن، وفي تنظيم الملاحة والفلاحة وشؤون الري.

من جهةٍ أخرى، لا نستطيع أن نهمل طبيعة الرياضيات وبنيتها المُجرَّدة، ففي الوقت الذي لمسنا الضعف في الجانب المجرد من الرياضيات المصرية والبابلية، يمكننا القول إنّ اليونانيين أول من اتخذ الرياضيات علماً نظرياً مجرداً بحتاً، وقد اعتمدوا في معلوماتهم الرياضيَّة الأولى على المصريين والبابليين.

كان موضوع الرياضيات عند اليونانيين ماهيات ذهنيَّة كاملة تتمتع بوجود موضوعي مستقل عن الذات، غير أنّ تمسك اليونانيين بصفة الكمال في الكائنات الرياضيَّة، جعلهم يقتصرون على دراسة الموضوعات التي يمكن إضفاء هذه الصفة عليها. لقد نقل اليونانيون الرياضيات من عالم الحس إلى عالم العقل، ومن التطبيق العملي إلى التفكير الميتافيزيقي.

مما سبق، نرى أنّ الرياضيات عند اليونانيين ، ومنهم أفلاطون مثلاً، كانت تنظر إلى الطبيعة على أنّها تحقيق لنموذج متعالٍ هو الماهيات الرياضيَّة، لكنّ تحليل الحركة أصبح يتطلَّب من الرياضيات الديكارتية تعريف اكتشاف علاقات هندسية تكون لغة الطبيعة، ولا تسكن سماء المعاني، كما كانت تقتضي منها اكتشاف علاقات هندسية بين عناصر الحركة، فلم تعد الطبيعة تكون وفق نموذج رياضي مُسبَق، بل أصبحت الرياضيات على العكس من ذلك هي التي تشيد وتبني حسب مقتضيات العلم الطبيعي الناشئ.

وهكذا، فقد كانت الحاجة ماسةً في عصر ديكارت إلى أن تنزل الرياضيات من عالم التجريد الخالص مرة أخرى وتحرر المنهج العلمي من هيمنة الجدل المدرسي، وأن تواجه التعارض الذي أقامه مفهوم جديد عن طبيعة لا نفوس فيها ولا أرواح، تسودها حركة آلية مع مفهوم يستخدم العلة الغائبة والنماذج الحيويَّة لتفسير حركات الكون.

حاول ديكارت استخلاص التطبيقات العلميَّة من هذا العلم، تلك التطبيقات التي من شأنها أن تجعلنا سادةً على الطبيعة وممتلكين لها. لقد كان ديكارت يحلم بتطبيق المنهج الرياضي على مجموع المعارف وتأسيس علم كلي منهجه واحد، وهو يرى أنّ ما يسوِّغ وحدة العلوم هو وحدة العقل العارف، وفكرته عن وحدة العلوم تعكس وحدة المادة التي يتكوَّن منها العالم، بحيث يكون الفلك والفيزياء، بل وحتى الطب، خاضعة للقوانين نفسها.

كانت الرياضيات في البدء أداة لعلماء الطبيعيات، واستمر الحال حتى منتصف القرن الماضي، أما اليوم، فإنّنا نرى الرياضيات تغزو جميع فروع العلوم الطبيعيَّة، وهي تؤدي اليوم دوراً كبيراً في نظرية الاحتمالات، وفي العلوم الإلكترونية، والآلات الحاسبة، والاقتصاد بنظرياته يتحوَّل تدريجياً إلى علوم رياضيَّة، فالصناعة والتجارة تعتمد على اتخاذ القرارات، وهذه بدورها مرتبطة بالإحصاء والاحتمال ارتباطاً وثيقاً، كذلك الحال بالنسبة إلى الطب والصيدلة والعلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة.

 

نظرة إلى واقع تعليم الرياضيات

الرياضيات هي دراسة أنظمة عامة تجريدية، وهذه الأنظمة تخدم دراسات خاصة أو مسائل تطبيقيَّة متنوعة، وهناك العديد من النماذج الرياضيَّة التي تناسب الواقع والحياة وتمثل أجزاءً منهما.

وفي نظرةٍ إلى الواقع، نرى أنّ تعليم الرياضيات تعترض سبيله اتجاهات سلبيَّة وعزوف وتدنٍّ في التحصيل وقصور في نقل المعرفة من سياق إلى آخر بشكل واضح وملفت للنظر. وقد تكون الأسباب عديدة ومختلفة، وليس الهدف هنا التحقيق في جميع الأسباب ومعالجتها، ولكن من بين الأسباب يكمن سبب مهم ومؤثر ما لم يشعر المُتعلِّم بحاجة واقعيَّة إلى ما يتعلَّم، وما لم تدرس المادة بشكلٍ أصيلٍ وفي سياقات واقعيَّة، وما لم يستطع الطالب رؤية الرياضيات داخل النسيج العلمي الحياتي الكامل الذي يصنع رداء الحياة، ما لم يَرَ الرياضيات شعراً أو قصة، أو مشكلة حياتيَّة واقعيَّة، ما لم يمزج المسائل بنماذج هادفة، ما لم يَرَ تطبيق الرياضيات في الفيزياء والعلوم والتاريخ والكيمياء، ما لم يبنِ جسوراً وقناطر توصله من جزيرة إلى أخرى، بسلاسةٍ وعفوية. لن تكون هناك رياضيات مفيدة، وسهلة، وذات قيمة، وذات معنى. إلا لتلك الفئة الموهوبة التي تعشق الرياضيات كرياضةٍ للذهن، وتشغف حل الطلاسم والرموز والمعادلات والأنماط، وتتذوق المعالجات الرياضيَّة والنظريات والتعميمات والقوانين كلعبةٍ للفكر وتنشيطٍ للذهن، وهذه الفئة ما هي إلا قلة قليلة من جمهور المتفرجين الصاخبين.

إنّ الحياة بطبيعتها متشابكة، ومعقدة، ومتداخلة، وإذا كان التعليم جزءاً من طبيعة هذه الحياة، فلا بد له من أن يكون أيضاً متشابكاً ومتصلاً، فالدماغ ليس حجرات للرياضيات، والكيمياء، والفيزياء، واللّغة، بل هو مساحة شاسعة فيها خطوط وتعرجات تخط بقلم التعليم لترسم لوحة ذات معنى.

ولنكن أكثر وضوحاً، دعونا نمعن النظر في الطفل الذي يتعلَّم صياغة الذهب، أو العمل في الألمنيوم، أو التبليط، أو البيع والشراء، أو الصرافة، أو النجارة وما إلى شابه ذلك، مثل هذا الطفل يتعرَّض إلى رياضيات كثيرة دون أن يدري، وهو يتجاوب وإيّاها ويستوعبها ويتعامل بها، ويتجرع معها جرعاتٍ من الحياة ومهارات اجتماعيَّة، ومعارف علميَّة أخرى، كل ذلك بصورة تلقائية وسلسة. ولو أنّ ما تعلمه من معارف قد صيغ في دروس كيمياء، ورياضيات، وفيزياء وغير ذلك، لما اكتسبه ذلك الطفل. ما أقصد أن أقوله هو أن النقل من السياقات الحياتيَّة إلى الصف والمدرسة، أسهل بكثير من نقل ما نتعلمه في المدرسة بصورة جامدة ومبرمجة إلى الحياة.

لا أريد أن يُفهم خطأً أنّني أصرُّ على أن ننمي علاقة حتمية توجب ترجمة كل معرفة أو نظرية أو تعميم أو موقف رياضي إلى نموذج حياتي أو علمي، أو نربطه ولو قسريّاً بالحياة والواقع وبصورة أصيلة. إنّ هذا أمرٌ مستحيل ومصطنع، ولكن الوضع يكون أقل وطأةً عندما نستثمر كل موقف يربط الرياضيات بغيرها من العلوم، أو بالحياة العملية الواقعيَّة، ونستعمل سياقات حياتيَّة واقعيَّة تستثير اهتمامات الطالب على تنوعها.

إنّ العلوم نفسها متداخلة متشابكة وتقوم بينها علاقات لا يمكن تجاهلها، بل إنّ الاتجاه السائد هو التركيز على وحدة العلوم وتوقف بعضها على بعض، فالفيزياء أصبحت مثلاً مندمجة في الرياضيات، والكيمياء مرتبطةٌ أشد الارتباط بكل من الفيزياء والرياضيات معاً، مثلما أنّ البيولوجيا ملتحمةُ إلى حدٍّ كبيرٍ بالكيمياء، أمّا العلوم الإنسانيَّة، فإنّ فصل بعضها عن بعض فصلاً نهائياً ليس سوى عملٌ تعسفيٌّ لا يساعد أبداً على تقدم المعرفة البشريَّة في الميدان الإنساني، لقد أصبحت وحدة العلوم حقيقيَّة واقعيَّة، ويكفي أن ننظر إلى العلوم الجديدة التي تنبت باستمرار في تخوم العلوم القديمة، مثل البيولوجيا الكيميائية، والفيزياء الرياضيَّة، وعلم النفس البيولوجي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس البيداغوجي.

من جهةٍ أخرى، لم يعد موضوع الرياضيات هو تلك الحقائق البديهية التي جعلت منها العقلانيَّة الكلاسيكية مرتكزها، وعملتها الصعبة، إنّ موضوع الرياضيات هو العلاقات، وبكلمة أدق "البنيات" وبالتحوُّل من "الكائنات إلى البنيات، صار واضحاً أنّ فروع الرياضيات ليست فروعاً مستقلة، وإنّما هي أشكالٌ من البنيات تجمعها خصائص جوهرية مشتركة. وهكذا، فبوساطة البنيات الأوليَّة حققت الرياضيات وحدتيها، وحدة الموضوع ووحدة المنهاج، ووحدتهما معاً. لقد تمكنت أخيراً من تحقيق وحدة الفكر وصياغة لغة مشتركة لمختلف البنيات، وهو مظهر من مظاهر التقدُّم الرائع الذي حققه الفكر البشري في هذا القرن.

لم تأتِ المعرفة يوماً منفصلة عن الحواس، والمشاعر، والحدس. لذا، فقد نادى التربويون الرياضيون بضرورة البناء على الحدس، ونادوا بضرورة مراعاة أنماط التعلُّم الحسية المختلفة من سمعية وبصرية، وحسيّة حركيَّة، وأقروا بارتباط المعرفة بالمشاعر والعواطف وأثر العاطفة في التعلُّم، والشكل التالي بعده يبين النموذج التربوي المتكامل الذي يركز على النظام التفاعلي والذي يتضمَّن أفكار المُتعلِّم ومشاعره وحواسه وحدسه.