رُؤْيَا‮ ‬في‮ ‬رِياضيّاتٍ‮ ‬ذاتِ‮ ‬مَعْنى

كثيرةٌ هي المرات التي كنت أنظر فيها إلى عيون طلابي في أثناء الشرح، وحقيقة أنني لا أستغني عن هذه النظرات، إنّها تقول لي عن أول استجابة عما أطرح وأحاول تفسيره، كنت أجدها أحياناً مبشرة وبها تكون سعادتي كبيرة، فأشعر بدفء التواصل والاطمئنان إلى أنّ طلبتي قد فهموا منِّي، وأحياناً كنت أراها متقلبة أو قلقة، وعندها تصلني رسالة بأنّ الأمور على غير ما اشتهي، وأنّ الأمر يحتاج إلى المزيد من الجهد، وأول ما كان يراودني هو التفكير في الطريقة التي اتبعتها للوصول إلى هدفي، وفوراً أشكك في طريقتي وأفكر في طريقة بديلة، لعلَّ تحقيق هدفي يكون فيها، وغالباً ما أعجز وتتوه بي الطريق والطريقة فتنتهي الحصة. ولكن تبقى عيون طلابي تلاحقني.



في أحد الأيام سألني أحد الطلاب في درس عن التطبيق العملي لموضوع كثيرات الحدود، وتساءل عن عدم استطاعته قراءة العبارات الواردة في الدرس كما يقرأ نصاً في دروس اللغة العربية؟ لماذا لا يستطيع فهم هذه الدروس كما يفهم القصة؟

 

وقفت مشدوداً إليه بكل كياني، ودارت الأفكار في رأسي واستحضرتُ معاني الكلمات التي يمكن أن تجيب عن سؤاله، وكل ما أعرف من بلاغة لغويَّة لعلّها تسعفني في إجابتي عن سؤال الطالب، ولكنني لم أفلح، حتى أنقذني الجرس معلناً انتهاء الحصة، فوعدت الطالب بأن أجيب عن سؤاله في اليوم التالي بعده، لعلَّ هذا القسط من الوقت يعطيني مجالاً للتفكير في الموضوع، أو يعطيني قادحاً في ذاكرتي لوسيلة ما منسية، أو طريقة مخفية. أعترف أنّي لم أفكر في سؤال الطالب إلاّ في إطاره العادي، حتى إذا ما عدتُ في اليوم التالي بعده توجهتُ إلى السبورة وأخذت أرسم وأرسم واربط الاقتران بالاقتران، والرسم البياني بالمساحات. الطالب نفسه يسألني: هل يُمكنك يا أستاذ أن تشرح لنا هذا الدرس بلغة نفهمها، بقصة مثلاً؟ فقلت له: ربما هنالك قصة لبعض المواضيع، ولكن ليس بالضرورة أن يكون لكل موضوع قصة. فقال الطالب: لماذا فكروا بكل هذه البراهين ولم يفكروا بقصة بسيطة يسهل على من هم في مستوى فهمي استيعابها وتعقلها؟ فقلت له: أعدك بأن أجيب عن سؤالك ما استطعت. وبالفعل، وجدت نفسي غير مستعد البتة لتلك الإجابة، وأنّي كنت مقصراً حقاً، لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟ كيف غاب عن ذهني وكيف؟ وكيف؟ وكيف؟

 

لم أكن في الماضي أشعر بعجز أو صعوبة في إيجاد وسيلة أو طريقة لتقديم مفهوم أو نظرية، لا بل كنت أشعر بأنّ هذه الصعوبات تقلُّ في كل سنة بفعل الخبرة، وكنت أشعر دائماً أنني أملك الوسيلة لإيصال ما أريد إلى طلبتي، ولكن في تلك اللحظة شعرتُ أنّ شيئاً مفقوداً لا أعرفه يُمكن أن يجعل الموضوع الرياضي أكثر حيويَّة أو تكاملية، ويجعله أكثر قرباً من ذوات الطلبة وأعمق معنى. وعلى الرغم من ذلك بقيت ممارساتي في الصف لا تتجاوز تقديم النظريات والقوانين وحل الأسئلة وعرض تطبيقات خارجيّة عليها. وحتى دوري بصفتي عضو لجنة مبحث لمديريَّة تربية جنوب الخليل طيلة خمس سنوات متتالية أدرت خلالها أكثر من أربعين دورة مُخصَّصة للمُعلِّمين الجدد في كيفيَّة عرض مواضيع المواد الدراسيَّة للصفوف المختلفة، وبخاصة في المناهج الجديدة، لم يخرجني هذا الدور عن تقديم موضوعات بصورة مفككة، وغالباً ما كنت أشعر بأني لا أقدم شكلاً متكاملاً، بل موضوعاً جافاً جامداً وبارداً، غالباً ما يقبله الحاضرون بسبب سطوة الوظيفة.

 

في أحد الأيام، تسلمتُ كتاباً من مديريَّة التربية فيه تكليفي حضور دورة ستقيمها جامعة أوسلو في الخليل، وكنت فرحاً جداً لعلّي أجد فيها ما أهجس به في نفسي، أو يُجيب عن بعض أسئلتي، وبالفعل ذهبت إلى الدورة التي استمرت أسبوعاً تقريباً، أصغيت خلالها إلى كل ما طرح فيها، وتفاعلت وإيّاه، وشعرت أنها مفيدة، ولكن معظم المواضيع التي عرضت فيها كانت تتمحور حول كيفيَّة الانتقال من الحساب إلى الجبر، على مستوى طلبة الصفين السادس والسابع الأساسيين، وقدمت الدورة للحاضرين مفاهيم عدة حول قراءة الحساب بلغة رياضيَّة، وأذكر أننا جلسنا بضع ساعات فقط نتعلم كيف ننتج وسائل تعليميَّة من عيدان الثقاب، وعلى الرغم من ذلك كانت الفائدة محدودة.

 

في صيف العام (2006)، أعلن مركز القطان عن عقد سلسلة من ورش العمل، كانت إحداها تحت عنوان "رياضيات ذات معنى". شدني العنوان والتحقت بالورشة التي بحق غيرت الكثير من المفاهيم والقناعات عندي. أتذكر في بداية اليوم الأول للورشة أنّني هاجمت الأستاذ وائل كشك، فقط لأنّني عرفت أنّه كان مشاركاً في وضع المنهاج، وكنت بحق غاضباً على هذا المنهاج الذي ينقصه المعنى، وهو يُدير ورشة بعنوان رياضيات ذات معنى. ضحك الأستاذ وائل وتقبل ذلك بصدر رحب وفتح ذلك باب النقاش بينناً، وبدأ العمل حواراً ونقاشاً وفعاليات، حيث تم تقديم مجموعة من المفاهيم والنظريات الرياضيَّة في سياقات قصصية، وتم تطبيق العديد من الأنشطة عليها، وقد تلمست كيف أنّ السياق القصصي وفر فرصةً لربط الأفكار الرياضيَّة بالعالم الواقعي ربطاً ذا معنى، وبدا لي في الورشة أنّ السياق القصصي يوفر فرصة للطالب لكي يبني معاني للمفاهيم والمصطلحات الرياضيَّة في سياق القصة وأحداثها. وقد شعرتُ بأنّ الكثير من الأفكار والفعاليات تناسبت مع بعض تساؤلاتي ولامست واقع المادة الرياضيَّة التي طالما حيرتني مثل "رحلة البحث عن أرانب وأشياء أخرى"، التي تهدف إلى تعليم الموضوعات المُتعلِّقة بأنظمة العد وغيرها، وقد كنتُ تفاعلت ومن معي في الدورة بسرعة، إلى درجة أننا كتبنا بعض القصص في نهاية الأيام الدراسيَّة مثل قصة  "كرة القدم"، حيث تعرضنا فيها إلى المُتغيِّرات العشوائيَّة والتوقع ومبدأ العد، وكنت حقاً بعدها كمن أمسك شيئاً كانت جذوره وأجزاؤه في أعماقه، ولكنها كانت مفككة وغير واضحة وهي في حاجة إلى أحد ما يركب بعضها في بعضها الآخر، وهذا بعض ما كان في تلك الورشة.

 

لقد فتحت تلك الأيام الدراسيَّة عليَّ باباً كبيراً من التساؤلات لكافة المواضيع التي أدرس، ومجالاً واسعاً للنقاش مع زملائي في المهنة عندما كنا نلتقي ونتدارس همومنا بصفتنا مُعلِّمين في المادة الدراسيَّة. وفي أحد اللقاءات، علّق أحد الزملاء: "أشعر بأنّ بعض القناعات قد تغيرت لديك، وأشعر بأنك أصبحت تهتم بالمعنى كثيراً كاهتمامك بالنظرية والمفهوم الرياضي". وقد تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا يساوي كل الجهد الذي نبذله إذا كنا لا نستطيع تقديم موضوع يحمل معنى للطالب؟

 

عندما أنظر الآن إلى الواقع، أرى أن الطلبة يتعرَّضون لظلمٍ كبير، وعندما يخاطبون مُعلِّميهم شاكين عدم الفهم كانوا على حق، وعندما كان المُعلِّمون يقولون إنّهم يعطون المادة حقها كانوا أيضاً على حق، فهم بالفعل كانوا يجهدون أنفسهم بكل السبل لتوصيل المعلومة، ولكن بالتركيز على الإجراءات والخوارزميات في خارج السياق، ولذلك وعلى الرغم من بذل هذا الجهد، لم يكن لهذه المعلومة أو هذا المفهوم أي معنى بالنسبة إلى الطالب، فالطالب يحتاج إلى الشعور بمعنى ما يُقدم، وهذا بدوره يحتاج إلى تقديم النظرية أو المفهوم في سياق، وإلاّ أصبحت المادة الدراسيَّة ومفاهيمها باردة وجافة.

 

الآن أصبحت حذراً من تقديم أي موضوع في الرياضيات دون سياق، أصبحت أجهد نفسي في البحث عن قصة مثلاً لتلائم موضوعي أكثر من إجهاد نفسي في البحث عن الوسائل والطرائق والخوارزميات على الرغم من أهميتها ولا أخفي حين أقول إنني كنت أستشير أناساً كثيرين حول سياقات بعض المواضيع. عندما كنتُ أقدم مفهوماً أو نظرية في سياق قصة كنت ألحظ كيف يُصبح جو الحصة أكثر تفاعلاً، وتزداد فرص التعبير الذاتي والحضور الشخصي، حيث يُصبح أي طالب يناقش في الموضوع الرياضي المُقدَّم ويُعبِّر عن أفكاره بطرائق مختلفة ويتشارك مع غيره من الطلاب، وأعتقد بأنه ومن خلال هذا الجو التشاركي والتفاعلي يتم بناء أفكار رياضيَّة مهمة في جو من الحريَّة، حيث تتولد أفكار أكثر وأغنى، فتقود كل فكرة إلى فكرة أخرى.

 

ولكن يجب ألا يفهم هنا أنني وجدت حلاً سحرياً لمواضيع الرياضيات كافة من مفاهيم، ونظريات، وقوانين، وبخاصة أنّني أدرس الصف الثاني الثانوي العلمي مادة الرياضيات، فالأمر ليس سهلاً، وأعتقد بأنّ الكثير من الموضوعات يصعب تطوير سياقات ملائمة لها، ومع ذلك أقول إنني سرت في طريق مختلف، وأشعر أكثر من أي وقت مضى بأنني أقرب إلى الطالب، فأنا لن أتساهل مع نفسي عندما أجول في عيون طلابي وألمس أنهم في عالم آخر.

 

واليوم، ونحن نفكِّر في عالم الرياضيات في مدارسنا، علينا أن ندرك أنّه دون وضع أسس تطبيقيَّة لكثير من مفاهيم الرياضيات، ستبقى الرياضيات المادة الأكثر جفافاً على المستوى الدراسي، والأكثر تعقيداً، مهما تفانى المُعلِّمون في إعطائها حقها من التوضيح. وإنني ومن هذا المنبر أوجه نداء إلى كل مسؤول في سلك التربية والتعليم، متمنياً عليهم الإسراع إلى تطوير مواد تعليميَّة تُقدم فيها الموضوعات الرياضيَّة في سياقات واقعيَّة، ورفد المناهج الفلسطينية بها (وبخاصة في المرحلة الأساسيَّة الدنيا والمتوسطة) لعلّها تكون معيناً لنا بوصفنا مُعلِّمين في رسالتنا التربويَّة والتعليميَّة.

أشكركم جميعاً وأتمنى لكم الخير كله

نادي عامر نصار

مدرسة بنات دورا الثانوية