دور المدرسة في تربية الابداع

محمود طافش

كشفت الدراسات النفسيَّة والتربويَّة الحديثة أن لدى الكائن البشري إمكانات عقليَّة هائلة، تمكنه من تحقيق المعجزات إن هو استطاع أن يستثمرها استثماراً علمياً منهجياً. وحيث إنّ القوى البشريَّة المُدرَّبة هي صانعة التقدُّم والتنمية فإنّ تعهدها بالرعاية والتربية يّعدَ من أولويات المجتمع الذي هو في حاجة ماسّة إلى العناصر المبدعة فيه. ويُعَدُّ الإبداع من مظاهر التجديد في العمل التربوي الهادف إلى إيجاد العناصر القادرة على قيادة الناس لتحقيق أعلى معدلات النمو الممكنة، "فإنّ الأمم لا تتقدم بالعدد الكبير من المُتعلِّمين فيها فحسب، بل وبنوعيَّة المُتعلِّمين وبوجود المُتفوِّقين والموهوبين الذين تستغل الأمة كل طاقاتهم التي تمتاز بالابتكار، وكل ما تستطيعه قدراتهم واستعداداتهم الفذَة، حيث إنّه على جهود هذه الفئة يتوقف تقدم المجتمع ورقيَه".



والطلاب المبدعون هم رصيد الأمة الحضاري، وأبرز عوامل تقدمها وازدهارها في شتى مجالات الحياة، وذلك باستثمار وتنمية الثروات الوطنيَّة، وهذا الاستثمار لا يتمَ بصورة مثمرة إلا بالفكر المستنير القادر على التخطيط الدقيق والتنفيذ الأمين. كما أن المبدعين هم الأقدر على قيادة العناصر البشريَّة، لإحداث التقدُّم والوصول إلى مرحلة الازدهار بعد التصدي للمعوقات وحل كافة المشكلات. فما دور المدرسة في رعاية الإبداع؟

تتولى المدرسة عملية رعاية المبدعين وتشجيعهم، وتبدأ هذه الرعاية في رياض الأطفال، وتزداد في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، ويكون التشجيع مكثفـاً في المرحلة الثانوية. ويمكن أن تقوم المدرسة التي تهتم برعاية المبدعين بالأنشطة الآتية لصقل ورعاية جوانب الإبداع لدى المنتسبين إليها:

  • تنظيم برامج إبداعيِّة يشارك فيها الطلاب المبدعون في أوقات الفراغ.
  • استخدام أسلوب التفريد في التعليم.
  • تجهيز غرفة مصادر تشتمل على تقنيات حديثة ومُتطوِّرة يتردد إليها التلاميذ المبدعون تحت إشراف مُعلِّم الإبداع.
  • تجهيز المكتبة بالكتب الحديثة والمُتميِّزة التي تربي التفكير الإبداعي لدى التلاميذ المبدعين، وتسمح لهم باستعارتها.
  • تنظيم محاضرات حول موضوعات إبداعيِّة ولقاءات شخصيات مبدعة.
  • توفير الإمكانات الماديَّة للتلاميذ لتطبيق أفكارهم وتمويل مشاريعهم.
  • مكافأة أصحاب الأعمال الإبداعيِّة بتقديم جوائز وحوافز إليهم.

وتهدف هذه الأنشطة إلى الكشف عن قدرات كل تلميذ وتطويرها في أثناء التفاعل الصفي الذي يديره مُعلِّم معد إعداداً خاصا لرعاية المبدعين.

وقد نجحت المدرسة في كثير من البلدان المُتقدِّمة تربوياً مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في تنظيم برامج لرعاية المُتفوِّقين من أبنائها فحققت نتائج مميزة، وفيما يأتي عرض موجز لبعض الممارسات التي حقّقت نجاحات في رعاية المُتفوِّقين:

  • في اليابان وفي بعض أقطار أوربا الشرقية يوجد مدارس خاصة للمُتفوِّقين والمبدعين، وتولي هذه البلدان أهمية خاصة للتنويع والتفريد في الحصة الدراسيَّة الإلزامية التي تهدف إلى تشجيع الميول، وإيقاظ الاهتمامات وتنمية القدرات الإبداعيِّة بدءاً من الصف الخامس أو السادس. وتعتمد بعض المدارس أسلوب القفز فوق الصفوف بتمكين الطالب المبدع من القفز من فوق صف أو أكثر، ليتمكَّن من الانتساب إلى الجامعة في وقت مُبكِّر.

  • وفي أمريكا واليابان وبلدان أوروبا الغربية يسمحون للطلاب المبدعين بالالتحاق المُبكِّر بالمدرسة، إضافة إلى تخصيص صفوف خاصة بهم، أو تزويدهم بمُقرَّرات إضافية تتحدى قدراتهم فيما يعرف ببرنامج الإثراء. وهناك مدارس تنشئ نوادي علميَّة يرتادها المبدعون في أوقات الفراغ، وتنظم لهم مسابقات ومباريات في مختلف المجالات.
  • والمدارس البريطانية تعتمد أسلوب الصفوف السريعة بتمكين التلميذ من تقديم اختبار تحديد مستوى، يتم على ضوء نتائجه وضع الطالب في المستوى التعليمي الذي يلائم قدراته، بحيث ينهي مثلاً المرحلة الدراسيَّة المُقرَّر إنهاؤها في أربع سنوات بثلاث سنوات فقط، فيوفَر بذلك سنة كاملة. وتسمح المدرسة البريطانية للتلميذ المبدع بأن يغادر غرفة الصف في المادة التي يُظهر فيها تفوقاً، ليلتحق ببرنامج لاصفي يعالج موضوعاً أكثر عمقاً تحت إشراف مُعلِّم مختص برعاية المبدعين. والمدرسة البريطانية كذلك توزع التلاميذ المبدعين على مجموعات حسب اهتماماتهم وميولهم.
  • ويهتم التربويون في بلدان غرب أوروبا بالمبدعين من خلال ما يُسمى بالصفوف اللاصفيَّة، حيث يُقدم للطلاب المبدعين محتويات دراسيَّة إضافية خاصة، تهدف إلى تعميق وتوسيع ما يتعلَّمونه في صفوفهم العادية، أو بهدف الانتهاء من المناهج المُقرَّرة في فترة وجيزة، تمكن الطالب المبدع من الالتحاق بالجامعة في وقت مُبكِّر، مع تركيز الاهتمام على المواد التي يميل إليها هؤلاء المبدعون، فيُزاد عدد الساعات المُقرَّرة لها بتقليل عدد حصص المواد التي لا يهتمون بدراستها.
  • وفي روسيا هناك ما يُسمى بالأساليب اللاصفيَّة لتشجيع الإبداع وهي مجموعة من الأنشطة والفعاليات التي تجري خارج جدران حجرة الدرس. تشرف عليها المدرسة أو مُؤسَّسات تعليميَّة أخرى كالمعاهد والجامعات، وتقدم مادة تعليميَّة تزيد في مستواها عن محتوى المادة التعليميَّة التي تقدمها الحصة الدراسيَّة، وتكون أكثر تنوعاً وعمقاً واتساعاً وتخصصاً.

 

الإدارة المدرسيَّة ورعاية الإبداع:

من شروط تنمية الإبداع أن توفر المدرسة لطلابها ومُعلِّميها بيئة تتقبل الإبداع، وتؤمن بأهميته وبدوره في التميُّز الحضاري، وأول مواصفات هذه البيئة أن يؤمن المدير بأن مُعلِّميه وطلابه قادرون على أن يبدعوا، وأن يبتكروا حلولاً للصعوبات التي تعترض سبيلهم لتحول دون إنجازهم أعمالهم، وأن يعطي مُعلِّميه صلاحيات للعمل على تحقيق أهدافهم حسب المُتغيِّرات التي تطرأ، مع وجود تواصل مع الإدارة، لتكون على علم بما سيقومون به.

وينبغي للمدير المدرسي الذي يرعى الإبداع ألّا يكون أسير التعليمات، وإنما يتصرف وفق ما يرى أن فيه مصلحة مدرسته. ومن المقترحات التي يمكن أن تساعده في جهوده ما يأتي:

  • أن يولي أفكار المشرفين التربويين والمُعلِّمين والطلاب الاهتمام الكامل، فيدرسها بعناية، ويعمل على تطبيق الصالح منها، وعلى تكريم صاحب الفكر المستنير مادياً ومعنوياً، ليعزز أداءه، ويشعره بأنه يقدر عمله، وبهذا يدفعه إلى المزيد من الإبداع.
  • العمل على تغيير الأنظمة والقواعد والتعليمات التي تعيق عملية الإبداع، وكذلك تغيير الأفكار التقليديَّة التي تعشش في عقول بعض المُعلِّمين، والأخذ بأيديهم بعيدا عن الأساليب التقليديَّة في العمل.
  • العمل على أن يمتلك التلميذ المبدع معارف وخبرات عميقة وموسعة، واكتسابه لمهاراتٍ متنوعةٍ وقدراتٍ خلاقةٍ مُخطط لها من قِبَلِ واضعي المنهاج، ليستطيع التفاعل مع قضايا الحياة بنجاح، ومواجهة الصعوبات التي قد تعترض طريقه.

 

مجالات تنمية الإبداع:

هناك العديد من الأساليب التي تستخدم في تشجيع المبدعين والأخذ بأيديهم إلى طريق النجاح منها:

  1. إنشاء الجمعيات والمُؤسَّسات المؤهلة لتربية الذكاء ورعاية الإبداع:
    كما هو الحال في اليابان حيث يوجد أكثر من أربعمائة جمعية لتربية الذكاء من أبرزها الجمعية العلميَّة لتربية الذكاء Education Learned Society of intelligence)) والجمعية العالميَّة لتربية الذكاء (ISIE) تتولى مهمة الإشراف على مراكز رعاية المبدعين في اليابان من خلال إعداد منهاج خاص وطرائـق تدريس عصريَّة، ويقـوم بالتدريس فيها مُعلِّمون من ذوي الكفاءة العالية والمنتقين بعناية، ثم يجري تدريبهم في معهد خاص تابع للجمعية الملكية لتنفيذ هذه المهمة، وتحقيق هذه الغاية وفق معايير صارمة.
  1. أسلوب المباريات العلميَّة:
    حيث يتم تحديد موضوعات البحث أو العمل، وتطرح كمسابقة يخصص لها جوائز سنية، تقدم لأفضل الاختراعات أو البحوث التي تشارك في المسابقة. ويستخدم هذا الأسلوب في ألمانيـا على نطـاق واسـع، وكذلك في روسيا يوجد ما يسمى بالأولمبياد العلمي الذي يُطرح على هيئة مسابقات، ويشرف على تنظيمها لجنة من وزارتي التربية والتعليم العالي ومُؤسَّسات شعبية أخرى، ويطرح هذا الأولمبياد مجموعة من المشكلات المتدرجة التي يتطلَّب حلها خبرات واسعة وفكراً مستنيراً، وتدعو التلاميذ إلى المشاركة في حلها خلال أيام معدودة، حيث يخرج الخاسر بينما يواصل الفائزون محاولاتهم لحل المشاكل الأكثر تعقيداً.
  1. إقامة معارض يعرض فيها المبدعون أعمالهم ومخترعاتهم:
    والإشادة بهم أمام زملائهم وذويهم وفي وسائل الإعلام.
  1. تأسيس نواد علميَّة خاصة بالمبدعين يقضون فيها أوقات فراغهم:
    ويمارسون فيها هوايات سامية كالشطرنج والبرمجة تحت إشراف اختصاصيين في رعاية الإبداع. كما تقام لهؤلاء مخيمات يقضون فيها جانباً من عطلاتهم، ويمارسون فيها ألعاباً رياضيَّة.
  1. إشراك التلاميذ المبدعين في مجموعة من الأنشطة والفعاليات ذات المستوى الرفيع:
    وتتسم بالعمق والاتساع والتنوُّع، وتنفذ هذه الأنشطة بأسلوب الفريق الواحد، أو توزع على المبدعين لتنفيذها فرادى تحت إشراف مُعلِّم خبير برعاية الإبداع، مما يكسب الفرد المبدع قدرات خلاقة، تعزز استقلاليته في تنفيذ المهام الصعبة ومواجهة المشكلات وإيجاد حلول مناسبة لها.
  1. تنظيم دروس اختيارية ذات محتوى واسع وعميق:
    يقبل عليها التلاميذ المبدعون لإشباع ميولهم وتنمية قدراتهم الإبداعيِّة، وتمهد لهم الطريق لتحديد مهنة المستقبل.
  1. أسلوب الإشراف المنتوري:
    ويقوم هذا الأسلوب على بناء علاقات شخصيَّة وثيقة بين المُعلِّم المُتميِّز المعد لرعاية الإبداع والتلميذ المبدع، ومن ثمَّ توظيف أسلوب الرعاية الأكثر ملاءمة لحالته، ويستخدم هذا الأسلوب عادة قبيل تنفيذ أسلوب المباريات العلميَّة.
  1. أسلوب البرامج الإطرائيَّة:
    يهدف هذا الأسلوب إلى ترغيب التلاميذ المبدعين في مدرستهم من أجل أن تُقدَّم لهم الموضوعات الأكثر عمقاً وشموليَّة، والتي لا يستطيعون الحصول عليها في الصفوف العادية، ويراعى أن تكون هذه الموضوعات متممة ورافدة لمحتوى المادة الدراسيَّة المُقرَّرة على الصفوف العادية، وتُقام في أوقات بعد الظهر أو في أيام العطل الرسميَّة أو في خلال الإجازة الصيفية.
  1. أسلوب الصفوف الموازية:
    يستخدم هذا الأسلوب على نطاق واسع في ألمانيا، ويهدف إلى تزويد التلميذ المبدع، عبر منهاج خاص وطرائق تدريس عصريَّة وتقنيات مُتطوِّرة، بقدر من المعارف التي تمكنه من دراسة المشكلات بعمق وموضوعية، وفي هذا الأسلوب توفير للوقت وللمال. ونظراً لأنّ أعداد التلاميذ المبدعين محدودة في كل مدرسة، فإنّه يمكن افتتاح صفوف موازية في مدرسة واحدة في كل مدينة، ليلتحق بها التلاميذ المبدعـون الوافدون من المدارس الأخرى.
  2. أسلوب المنح الدراسيَّة:
    وهذا الأسلوب مستخدم على نطاق واسع في العالم، وفي كثير من الأقطار العربية، حيث تقدم منح دراسيَّة إلى الطلاب المبدعين لإتمام دراستهم الجامعيَّة على نفقة الحكومة أو غيرها من المُؤسَّسات العلميَّة أو الاجتماعيَّة أو الخيرية.
  3. إصدار مجلة خاصة بالإبداع تقدم لهم كل جديد ونتقبل أفكارهم ومشاركاتهم:
    فإذا استطاعت المدرسة أن تفتح هذه المجالات، وأن تهيئ الظروف الملائمة لرعاية الطلاب المبدعين، وتوظيف أساليب تعليم التفكير المتجددة، والتقنيات المُتطوِّرة، ووسائل التقويم المُعدَّة بعناية، فإنها تكون بذلك قد قامت بدورها التربوي على أكمل وجه.

 

دور المدرسة في تربية الابداع لدى الطلاب المُتفوِّقين والموهوبين