تعليم المقهورين

 

تأليف

باولوفرايرى

ترجمه وتقديم نور عوض

 

الناشر

دار القلم

بيروت لبنان

جميع الحقوق محفوظة

الطبعه  الأولى

1980



الاهداء

الى المقهورين

والذين يقاسون معهم ويحاربون الى جانبهم

مقدمة المترجم

درجت على نشر أعمالي دون مقدمات، تاركا للقارئ حرية استخلاص ما يراه فيها من قيمة، غير أن بعض الأصدقاء أشاروا على بضرورة تغيير هذا الاتجاه لأن من القراء من يحتاج الى ضوء أو دليل يقوده الى عالم الكاتب، ولقد اقتنعت بهذا الرأي بعد أن رأيت بعض الذين قرأوا كتابي الرؤية الحضارية والنقدية في أدب طه حسين يخطئون الهدف الذي أردته من ذلك الكتاب، وعلى الرغم من اقتناعي بما أشار به الاصدقاء فقد ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذه المقدمة.  فهذا الكتاب الذي أقدمه لقراء العربية اليوم هو واحد من أخطر الكتب التي ظهرت في الفكر العالمي الحديث ، وتكمن خطورته في أنه تعبير أصيل عن تجربة انسانية حية ورؤية ثاقبة لاحتياجات المقهورين في عالم ازدحمت فيه الايديولوجيات والثورات وتعددت فيه صور القهر والاستلاب ، ولعل ذلك ما جعلني أتردد في اقحام نفسى على عمل الكاتب ، ولكني وبعد تدبر أمري أدركت أن الترجمة في حد ذاتها مسئولية كبرى ، ونحن وان كنا نؤمن بضرورة الانفتاح على الثقافات العالمية ، واقتباس الافكار البناءة فيها ، فان علينا مسئولية توجيه أنفسنا في النظر الى تلك الثقافات ، وما يتمخض عنها من أفكار . ولا يعني ذلك أن نفرض حظرا على الافكار لان مثل هذا الحظر هو ضرب من التسلط واستجابة لثقافة القهر - وانما يعني ضرورة تمحيص الافكار وتقليبها لمعرفة ما إذا كانت تحمل في داخلها جديدا، أم هي مجرد تذكير لنا بواقع قد نسيناه، أم هي لا هذا ولا ذاك وانما هي انحراف ينبغي علينا تجنبه؟ وأجدني بحاجه الى ذكر أن اهتمامي بهذا الكتاب لا ينطلق من ذلك المفهوم الذي ركز عليه التربويون، فلقد توطدت شهرة هذا الكتاب في المجالات التربوية على أنه يقدم نظرية جديدة في أساليب التعليم وبخاصة (تعليم الكبار). أما أنا فقد رأيت فيه كتابا يحدد المعالم الرئيسية في فلسفة الثورة وهنا أجدني بحاجة كي أقف قليلا عند كلمة الثورة هذه لأنها تثير حساسيات بالغة في العالم العربي، فالثورة في هذا العالم ارتبطت بالفوضى وقلب أنظمة الحكم وسيطرة الصفوة على مقاليد الامور، بل وأصبحت حكرا لليسار برغم أنه يمارس في كثير من الاحيان أبشع ألوان التسلط والقهر.

قلت ان هذا الكتاب يحدد المعالم الرئيسة لفلسفة الثورة ولكن أي ثورة أعني  انها الثورة التي تستهدف تحرير الانسان وتوجيه طاقاته نحو تغيير العالم الذي يعيش فيه ، وهي بهذا المفهوم أقرب الى ذلك العمل الجبار الذي قام به أسلافنا انطلاقا من مبادئ الاسلام وامتلكوا به العالم بل وغيروا به وجه الحضارة في ذلك الزمان ، ونحن اذا قرأنا كتاب " باولو فرايري أدركنا أنه يبني وعيه بمفهوم الثورة على أمور هي من صميم تراثنا ، ولا ينال ذلك من مجهود " باولوفرايري " ، فقد ذكرنا بوعينا القديم وجعلنا نعرف حقيقة العالم الذي نعيش فيه .

لقد تحدث " باولو فرايري في كتابه عن الثورة كعمل يمارسه المقهور من اجل تجاوز ظروف القهر واكتساب حريتهم ، وهم في هذه الممارسة يواجهون القاهرين الذين لا يريدون لهم أن يتحرروا بل يريدون لهم أن يستبطنوا ظروف القهر ويعتبروها قدرا لا يمكن رده ، ويرى " باولو فرايري " أن الثورة بهذا المفهوم ليست منحة يقدمها القادة للأفراد، ذلك أن الافراد ان لم يبدأو تحرير أنفسهم بأنفسهم في عمل تضامني ، فلن يمكن للقيادة أن تحررهم ، وهو لا ينكر بذلك اهمية الدور الذي تقوم به القيادة الثورة في العمل الثوري ، فللقيادة في نظره دور هام في توجيه الجماهير للإحساس بظروف القهر ، غير أن القيادة التي تحاول أن تفرض رؤيتها وفكرها على الناس دون أن تشاركهم فكرهم محكوم عليها بالفشل لأنها في حقيقتها ليست قيادة ثورية وانما هي بديل متسلط. يحل محل القاهرين ويفتقر الى ثقة الجماهير به .

تلك هي الفكرة الرئيسية في كتاب " باولوفرايري “، غير أن روعة ا لكتاب تتجلى في نقده " لمفهوم التعليم البنكي " وهو التعليم الذي نمارسه في مدارسنا وفي جامعاتنا ولا نستهدف منه سوى السيطرة على عقول الطلاب بجعلها بنوكا نخزن فيها ودائعنا المعرفية من أجل استلابهم، وتتجلى أيضا في تحديده للوسائل التي يكرس بها القاهرون القهر وهي الاستغلال والغزو الثقافي والاستلاب، كما تتجلى في توضيحه للطريقة التي يتعلم بها المقهورون كيف يتجاوزون ظروف قهرهم.

فاذا عدنا الى واقعنا العربي وجدنا كثيرا من الحقائق التي تعرض لها " باولوفرايري " ماثلة فيه، فلقد عرفنا " باولو " أن الثورة لا يمكن لها أن تتحقق الا عن طريق " التعليم الحواري " وما يعنيه بالتعليم الحواري ليس هو ذلك الجدل العقيم الذي يمارسه قادتنا وإنما هو ضرب من الوعي بالواقع الإنساني، فالإنسان عندما يتبين واقعه يدخل في علاقة حوارية مع نفسه وزملائه والعالم الذي يعيش فيه هذه العلاقة الحوارية هي التي تخدم الوعي وهي التي تؤدي الى الحرية وبالتالي الى تغيير العالم.

أما ما يحدث عندنا الآن، فهو عكس ذلك تماما، جماعه من المتسلطين يخرجون بقوة السلاح يسيطرون على السلطة ويعلنون مبادئ كبرى وتمضي السنوات وراء السنوات فلا يتحقق شيء من التقدم ولا تتحقق حرية الانسان، وبمجرد أن يواجه مثل هذا التحدي الجماهير وتبدأ في الاعلان عن صوتها تواجه " بالعنف " أو تزور ارادتها عن طريق الدخول معها في حوار سطحي يحدد الحاكم مداخله ونتائجه ولا يستهدف في النهاية سوى أن يمنحه هذا الحوار تفويضا قانونيا يمارس له سلطته القاهرة.

 أين ذلك من منهج الحوار الذي يستهدف الوعي والذي لا يتحول فيه القادة الى صفوة متحكمة بل يظلون في مواقعهم البسيطة يساعدون الناس على تبين حقائقهم ويدفعونهم الى التحرك في طريق حريتهم؟ أليس ذلك هو منهج الاسلام الحق؟ حقا هو منهج الاسلام الحق. اذ ما الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يغير طبيعة الانسان العربي ليمكنه هذا التغير في أقل من قرن من الزمان أن ينشر ألويته سيدا على العالم المعمور آنذاك.

لقد تم ذلك العمل الرائع بمنهج التعليم الحواري الذي حفل به القرآن الكريم، فمنذ اللحظة الاولى التي ظهرت فيها دعوة الاسلام ركز القرآن الكريم على أن يجعل المسلمين يتفكرون في الكون ويتدبرون واقعهم من أجل تمييز أنفسهم، أي أنه وجههم لبدء الجدل مع الكون والطبيعة والاخرين، وذلك ما ولد في المسلم قناعته بتحرير نفسه من رق الجاهلية والانطلاق الى تغيير العالم.

والمدهش حقا أنه في اللحظة التي توقف فيها المسلمون عن مبدأ الحوار في الفتنة الكبرى وحكموا السيف فيما بينهم بذرت بذور النهاية لتلك الدفعة القوية التي تمت في عصر الخلفاء الراشدين، وهكذا فنحن بحاجة كي نفهم تاريخنا منذ ظهور الاسلام والى يومنا هذا لنفهم كيف بنى منهج التعليم الحواري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم طاقة الابداع والمبادرة عند العربي، وبحاجة كي نفهم الكيفية التي أدت بالمذهبية والعصبيات والانفتاح غير المسئول الى سوق المجتمع الاسلامي الى حافة التدهور الحضاري.

وهنا يجدر بي أن اقول : لست من الذين يعتقدون في الحلول الكسلى لأزمة الحضارة ، إذ يخطئ الذين يقولون ان دعوة الوعي للحضارة العربية الاسلامية القديمة إنما يتم عن طريق تجديد شبابها بالأخذ من الحضارة الاوروبية الحديثة ، ولا حرج في ذلك في نظرهم لان الحضارة الغربية قد أخذت من الحضارة العربية في، العصور ر الوسطى ، غير أن الحل في نظري ليس على هذا النحو من البساطة والسذاجة لان تجديد شباب الحضارة لا يتم عن طريق النقل ، وهذه الفكرة قد أكد عليها الاستاذ مالك بن نبي في كتابه " شروط النهضة " كما لا يتم تجديد شباب الحضارة عن طريق وعينا بالماضي وحده كما ذهب الى ذلك كثيرون بل يتم تجديد شباب الخضارة او على وجه أدق المدنية" عن طريق إقران الوعي بالممارسة كما قال " باولو فرايري " ، فمن ألمع الافكار التي قالها " باولو " هي أن العمل الثوري لا يمكن أن يجزأ لينجز في مرحلتين ، مرحلة يختص فيها بالوعي والاخرى يختص فيها بالعمل ، إذ ينبغي دائما أن يتم كلا الوعي والعمل في مرحلة واحدة .

ويخطئ الذين يرون الدعوة الى تجديد شباب الامة ضربا من المحال ، فقد بينت في كتابي " المقومات الاسلامية للثقافة العربية " أننا نعيش في ظل حضارة انسانية واحدة ، ولكننا في اطار هذه الحضارة نمارس مدنيات مختنقة ذات ثقافات متعددة والذين يحاولون طمس هذه الحقيقة انما يحاولون محالا ، ولعلهم لو نجحوا لدمروا جمال العالم الذي نعيش فيه ، ذلك أن العالم جميل بما فيه من اختلاف ، وقد أدرك " روجيه جارودي " في كتابه " حوار الحضارات " هذه الحقيقة حين دعا الحضارة الاوروبية الى ضرورة التحاور مع الحضارات البشرية وأن تقلع عن نزعتها التدميرية ولدينا أكثر من دليل على أن كثيرا من الاوروبيين الذين يدعون الى مثل هذا قد انطلقت دوافعهم من احساس ببداية أفول المدنية الاوروبية المعاصرة التي تقوم على نظرية السيطرة والاستغلال ، فهم لا يحرصون على حضارات العالم أو مدنياته بقدر ما يحرصون على أن تكون مدينتهم هي المتفوقة.

ولا شك أن الموضوع الذي طرقناه طويل ولا يمكن أن نشمله في مقدمة قصيرة كهذه، غير أن ما أراه الان هو أن هذا الكتاب بداية لوعي جديد، وعي ندرك به حقيقة ما نريد، إذ ليس من العدل أن تتسلط فئة ما باسم الثورة على الضعفاء وليس من العدل أن تسلم هذه الفئة المسئولية لمن هم غير أكفاء لها، لا في مستوى السلطة السياسية فحسب بل في مستويات ينبغي ان تكون في مأمن من الابتزاز ومنها رئاسة الجامعات ومراكز البحوث وأشباهها.

وإذا كنا نعترف " لباولو فرايري، بفضله العظيم في لفت انظارنا للمفهوم الحقيقي للثورة فان من واجبنا أن ننبه الى ما وقع فيه من خطا حين قصر القهر على طبقة من البشر تمارسه ضد طبقة اخرى، فنحن لا ننكر أن القاهرين يمهدون لكل الظروف التي تحقق القهر ولكن ينبغي أن نعلم أن مداخل القهر كثيرة، من بينها الظروف الطبيعية والامكانات الاقتصادية المحدودة والتوجهات غير المبدعة، وكل هذه أمور لا بد من أخذها في الحسبان عندما ننظر في نضال الجماهير من أجل تحقيق حريتها التي تتمكن بها من تغيير الحياة. ولعل أروع ما في الفكر الاسلامي كله أنه لم ينظر الى هذه المشاكل مجزأة وانما نظر اليها ككل متكامل وبذلك جاءت نظرية الاسلام في المعرفة مبنية على التوازن والشمول اللذين هما الاساس السليم لكل بناء حضاري متكامل.

المترجم 0 3/ 2 1/ 979 1