تعلُّم الراشدين في نطاق تنمية الموارد البشريَّة

تُشكِّل عمليَّة تعلُّم الراشدين الناحية النظريَّة والتطبيقيَّة لتعليم الراشدين (AE) وتنمية الموارد البشريَّة (HRD). وبالرغم من ذلك فإننا نجد اختلافاً واضحاً بين هذين النظامين من حيث الأهداف ومنظورهم لتعلُّم الراشدين. والاختلاف الرئيسي بينهما يتجلى في توجيه الأهداف والغايات التي يُوظَّف تعلُّم الراشدين لتحقيقها. بمعنى آخر، التوجيه الفردي مقابل التوجيه التنظيمي. يتناول هذا الفصل موضوع تنمية الموارد البشريَّة وأهميّة تعلُّم الراشدين في نطاق تنمية الموارد البشريَّة إضافة إلى موضوع التحكُّم.



أهداف تنمية الموارد البشريَّة

يتفق المُختصُّون بمجال تنمية الموارد البشريَّة على وجه العموم حول طبيعة أهداف المُنظَّمة، حيث يؤكِّد مُعظمهم على أن وظيفة هذه التنمية تتبلور بزيادة أداء المُنظَّمة ككل من خلال تطوير المُوظَّفين العاملين داخل المُنظَّمة. (ASTD-USDL، 1990؛ نولز، 1990، ماك لاجان، 1989؛ سوانس، 1995).

 

ويعتقد آخرون بأن تنمية الموارد البشريَّة يجب أن تركز على تطوير الفرد والإنجاز الشخصي دون استخدام الأداء التنظيمي كمقياس للكفاءة (ديركس، 1990)، ومع ذلك، فوجود المُنظَّمة يتحدّد بازدياد الأداء الناتج بسبب فعاليَّة تنمية الموارد البشريَّة. وننوِّه هنا إلى مفهوم الإسهام الذي ينشأ عن المنظورين السابقين.

 

يقدِّم هولتون (1998) تصنيفاً مُفيداً لكل من "نتائج الأداء" و"دوافع (مُوجِّهات) الأداء". إن بعض الأفراد يُركِّزون بالدرجة الأولى على أهميّة المُنظَّمة وبالدرجة الثانية على الفرد، بينما نجد العكس عند البعض الآخر. وفي هذا السياق يأتي تصنيف هولتون كحل لمشكلة التعارض بين هذه الآراء، لأنه يلفت نظر اختصاصي تنمية الموارد البشريَّة إلى فكرتي "نتائج الأداء" و"مُحسِّنات الأداء". فهناك ترابط منطقي بين أداء المُنظَّمة (كخدمات الزبائن العالية الجودة) وبين مُحسِّنات الأداء (كالتعلُّم وتحسين العمليَّة). تستطيع الرجوع إلى الفصل 17 من أجل استيضاح ذلك.

 

يتحتَّم على قسم تنمية الموارد البشريَّة أن يبذل قصارى جهده للمساهمة في إنجاز أهداف المُنظَّمة، وذلك حين نكون في صدد الحديث عن المُنظَّمات الإنتاجية. تُعتبَر المُنظَّمة بالتعريف: نظاماً يهدف إلى تحقيق الأهداف الفعَّالة، حيث أن الكفاءة تحافظ على استمرارية بقاء المُنظَّمة. وبالتالي يجد قسم تنمية الموارد البشريَّة أنه يجب التركيز على تلك الأهداف إضافة إلى الأهداف الفرديَّة الخاصة بالمُوظَّفين.

 

كما يمكن اعتبار تنمية الموارد البشريَّة بمثابة نظام فرعي يؤدي وظيفته ضمن نظام تنظيمي أضخم. فالمُنظَّمة: هي مشروع إنتاجي يسعى لإنجاز مهمة ما وفق أهداف مُحدَّدة (هولتون، 1997). إضافة إلى ذلك، يمكننا تعريف المُنظَّمة كنظام ذي أهداف وأقسام ونواتج وعمليَّات ومعطيات مُحدَّدة (راملر وبراش، 1995). إن المواضيع المعاصرة تستمر في معالجة فكرة ربط تنمية الموارد البشريَّة بالأهداف الإستراتيجية للمُنظَّمة (وكمثال على ذلك اقرأ جيل، 1995). وحتى يحقِّق قسم "تنمية الموارد البشريَّة" مكانة مهمَّة وفعَّالة داخل المُنظَّمة، يفترض أن يُعامَل كشريك استراتيجي بحيث يحقق نفس المستوى من الأهميّة كغيره من العمليَّات التنظيميَّة الرئيسيَّة التقليديَّة مثل: التمويل والإنتاج والتسويق (توراكو وسوانس، 1995). وهكذا فإن فهمنا لهدف "تنمية الموارد البشريَّة" يعتمد على مراعاة أهداف النظام الأكبر الذي تتفرَّع منه "تنمية الموارد البشريَّة" كنظام ثانوي.

 

ولعل الموارد البشريَّة من أهم سبل النجاح التي تعتمدها الشركة من بين جميع الموارد الأخرى، لذلك يتوجَّب على المُنظَّمات أن توليها عناية خاصة (أيد فنسون ومالون، 1997). تنفق مُعظم المُنظَّمات أموالاً باهظة على عمَّالها من أجور ومُكافآت وغيرها من النفقات التي تخصصها بغرض تنمية الموارد البشريَّة (بيكر، 1993؛ نو وآخرون، 1994). وبالرغم من اختلاف الموارد البشريَّة عن غيرها من الموارد، من حيث قدرة الناس على الشعور وتصميم الخُطَط ومُساعدة العائلات وتطوير المجتمعات، إلا أننا نجد تشابهاً ما بين هذه الموارد وغيرها، حيث تعتمد الشركات على مُوظَّفيها في جني الأرباح فهي تعتبرهم بمثابة استثمار لأموالها (كاشيور، 1987). وإذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية الاقتصادية عندها من مصلحة الشركة أن تبحث عن مورد آخر لاستثمار أموالها في حال فشل العمال في تحقيق الربح والنجاح للمُنظَّمة. والأمر نفسه ينطبق على المُنظَّمات التي لا تهدف للربح، حيث يتوجَّب على المُوظَّفين أن يساهموا على نحو فعَّال بتحقيق الأهداف الضروريَّة لاستمرار المُنظَّمة حتى ولو لم يكن الربح وجني الدولارات هو المُحرِّض لتحقيق تلك الأهداف.

 

وليست غايتنا من دراسة الحقيقة الأساسيَّة لوجود المُنظَّمات تصوير وصف خالٍ من المشاعر لمكان العمل الذي يكون فيه الناس أشخاصاً لا أهميّة لهم، سوى أنهم يُشكِّلون جزءاً من العمليَّة الإنتاجية ككل. هنالك العديد من الشركات التي تحقّق أهدافها في الوقت الذي تحقّق فيه أفضل النتائج من ناحية علاقاتها مع مُوظَّفيها وطريقة تعاملها معهم (ليغيرنيج وموسكوتيز، 1994). لم يسبق لنا أنْ سمعنا بأنَّ نجاح المُنظَّمات يتعارض بشكل مباشر مع سعادة المُوظَّفين ورفاهيتهم.

 

 يُعرَّف الأداء بأنه نتائج نظام تنظيمي يجذب الزبائن له بالإنتاجية التي تُنسَب للمُنظَّمة أو لسير العمل أو لمستويات المساهمة الفرديَّة. استناداً إلى هذا التعريف، يُعتَبَر الأداء وسيلة تقيس بواسطتها المُنظَّمات درجة تحقيق أهدافها. ويُقاس الأداء بثلاث طرق هي: معدلات الربح (معدّل الإيرادات) وزمن دورة العمل وجودة النتائج والمُحصِّلات. وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين مستويات الأداء، حيث يحدث الأداء ويُقاس على مستوى الفرد أو العمليَّة أو المُنظَّمة.

 

حين تتوافق "تنمية الموارد البشريَّة" مع أهداف واستراتيجيات المُنظَّمة بحيث يكون الأداء هو الوسيلة الأساسيَّة لإنجاز تلك الأهداف والاستراتيجيات، عندها تكون المهمة الأولى للمُنظَّمة هي المحافظة على الأداء، وتحسينه سواء أكان ذلك يتعلَّق بالأفراد أو بالعمليَّة أو بالمُنظَّمة. وإذا نظرنا إلى "تنمية الموارد البشريَّة" كنشاط يزيد من فاعلية الشركة (بدلاً من اعتبارها نفقة إضافية تثقل كاهل الشركة مما يستدعي السيطرة عليها وتخفيض تكاليفها)، في هذه الحالة لابد للأشخاص المعنيين "بتنمية الموارد البشريَّة" أن يُركِّزوا على الأداء وكيف أنه يُمكّن المُنظَّمات من تحقيق غاياتها.

 

 

تنمية الموارد البشريَّة وتحسين الأداء

 كيف تساهم "تنمية الموارد البشريَّة" في تحسين الأداء؟ هناك الكثير من الاحتمالات على المستوى الشخصي والتنظيمي وعلى مستوى العمليَّة. يوضح الشكل 8-1 مصفوفة لمستويات ومُتغيِّرات الأداء والتي يمكن استخدامها لتشخيص مشاكل الأداء (سوانسن، 1996، ص52). تتضمّن كل خلية مجموعة من الأسئلة التي تُمكِّننا من تشخيص الأداء، حيث تعتبر كل خلية بحد ذاتها أطاراً مفاهيمياً لتصنيف تغيُّرات الأداء.

 

وكمثال على ذلك، الخانة "المهمة/الهدف" الخاصة بمستوى المُنظَّمة تسأل فيما إذا كانت مهمة المُنظَّمة وهدفها تتناسب وتتلاءم مع الحقائق الداخليّة والخارجيَّة المُتنوِّعة. إذا كان الجواب عن هذا السؤال هو النفي، عندها سيواجه الأداء صعوبات تؤدي إلى عرقلته. تصور معي عدم ملاءمة أهداف المُنظَّمة لواقعها الثقافي، أعتقد بأن ذلك سيؤدي إلى أداء جزئي. تتدخَّل "تنمية الموارد البشريَّة" لإيجاد حلٍّ لمشكلة الأداء بأسلوب مُنظَّم وفق طريقتين (وبالطبع اعتماداً على نتائج التحليل المُفصَّل) حيث يمكن إجراء عمليَّة لصياغة المهمة والأهداف التي تلائم الثقافة التنظيميَّة. ومن ناحية أخرى، توجد إمكانية لتعديل الثقافة من خلال تطبيق عمليَّة التغيير الثقافي لصالح أهداف ومهمة المُنظَّمة. يتضح لنا من ذلك المثال ومن مصفوفة تشخيص الأداء العديد من عوائق الأداء، وبالنتيجة تعتبر تلك العوائق بمثابة تحدٍّ لتنمية الموارد البشريَّة، التي تجدها فرصة سانحة لإظهار قدراتها في تحسين الأداء.

 

عندما يتحدَّث مُدراء الصناعة والعمل عن الأشياء المهمة لاستمرارية شركاتهم، فإننا نجدهم أحرص الناس على خوض أحاديث تتعلق بالمعرفة والخبرة الضروريَّة التي سبق وعرضناها في الخلايا الخمس عشرة في مصفوفة تشخيص الأداء. ويُقسَّم هذا التعلُّم إلى عدة أشكال تعتبر ركيزة أساسيَّة للأداء التنظيمي (ليونارد_ بارتن، 1995، ص21): معرفة عامة، ومعرفة صناعية، أو معرفة خاصة بأمور الشركات.

 

 لاحظ الدور المهمّ لتعلُّم الراشدين والذي يظهر بوضوح في مُعظم خلايا المصفوفة إن لم يكن في جميعها. ولابد من الانتباه إلى أن إنجاز العمل المُحدّد في كل خلية تشخيصية لنظام المُنظَّمة يشترط تعلُّم الكثير لمعرفة كيفيَّة سير الأمور ضمن حدود هذه الخلايا. عندما ترغب "تنمية الموارد البشريَّة" -مثلاً- بتغيير الثقافة، عندها نستطيع مُلاحَظة أهميّة مبادئ وتطبيقات تعلُّم الراشدين في الوقت الذي يتعلَّم به الموظفون معايير جديدة. تستلزم مُعظم استراتيجيات تحسين العمليَّة استخدام فَرِق مُوجَّهة ذاتيَّاً تقوم باختبار عمليَّات العمل، وتَعلُّم أساليب جديدة لإجرائها. إن اكتساب الكفاءة الإدارية هي عمليَّة تَعلُّم بحدِّ ذاتها. يصبح التعلُّم شرطاً ضرورياً للمُنظَّمات التي تعتمد الابداع كمُحفّز أساسي لأدائها. (سينج، 1990؛ واتكينز ومارسيك، 1993). ليس من الصعب التكهُّن بضرورة تعلُّم الراشدين حيث يمكننا أن نستدل عليها من خلايا مصفوفة تشخيص الأداء.

 

 هذا وتتجسد وظيفة "تنمية الموارد البشريَّة" الإستراتيجية المهمّة في تعزيز المقدرة الإستراتيجية للمُنظَّمة. إذاً: تزود "تنمية الموارد البشريَّة" المُنظَّمة بالمعرفة والخبرة اللازمة لتطوير سيناريوهات مُستقبليَّة انطلاقاً من واقع المُنظَّمة وإمكاناتها (توراكو وسوانس، 1995). وإذا ما نظر المرء لتعلُّم الراشدين من هذه الزاوية، فسوف يدرك أهميّة ذلك لاستمرارية أداء النظام الحالي ولإدخال تحسينات على ذلك النظام. ويزداد اعتقاد الناس بأن ما تملكه المُنظَّمة من معارف وأفكار هو ما يجعلها في مَصافِّ المُنظَّمات المتنافسة (أيدفنسو ومالون، 1997؛ سيتوارت، 1997). وهكذا يصبح التعلُّم إستراتيجية فعَّالة لتحسين المُنظَّمات عندما يصبح جزءاً لا يتجزأ من بنية نظام تحسين الأداء الشمولي.

بقية البحث في الملف المرفق