تحديات في وجه التربية الوطنيَّة

يفهم من التربية الوطنيَّة ذلك النشاط التعليمي التربوي الذي يدمج الأجيال في مجتمع متحرر أو متجه إلى التحرُّر، كما يدمج الثقافة الوطنيَّة في الأجيال الناشئة. فالتربية الوطنيَّة هي عملية تأهيل الأجيال للمساهمة الفعَّالة في قضية التحرُّر الوطني. وحيث إنّ التحرُّر الوطني يقترن بالضرورة بتوجهات الديمقراطيَّة والتنمية والتقدُّم، فإنّ التربية الوطنيَّة تنطوي على إجابات تطرحها الأسئلة الجوهرية لمهمات إنجاز التحوُّلات الوطنيَّة الديمقراطيَّة، أو تعزيز هذه التوجهات المعيارية في الوعي الاجتماعي، بل الحياة الاجتماعيَّة. ويتم التأهيل من خلال تنمية القدرات الذهنيَّة والعقليَّة وتزويد الناشئة بالمعارف العلميَّة والقيم الاجتماعيَّة، وبخاصة قيمة الحريَّة، وتطوير الأذواق الجماليَّة للفن والأدب، وتربية المهارات العملية اللازمة للحياة، والانفتاح على العالم، مع التزود بمناعة ذاتيَّة تقاوم ثقافة العولمة. والنظام التعليمي، بشكل عام، مفتوح على احتمالات متناقضة: إمّا أن يكون عامل تغيير ثوري للحياة الاجتماعيَّة، وإمّا أن يكون قوة محافظة تكرس الأوضاع القائمة، وبخاصة العلاقات الاجتماعيَّة.

 



في مرحلة الطفولة، هل تتوجه العملية التربويَّة بوحي تنمية طاقة الخيال وقوة الإرادة والاستقامة لدى الطفل؟ أو تربي لديه الخنوع للأمر الواقع وتنميط شخصيته وفق مواعظ "أخلاقيَّة" بينما تنمي لديه النفاق في ظل الإكراه والأوامر؟

نجد في نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعض الأجوبة المُبكِّرة والأوليَّة عن السؤال، وكذلك في طبائع الاستبداد، مؤلف الشيخ المتنور عبد الرحمن الكواكبي. وفي ميثاق حقوق الطفل ومعطيات علم التربية الحديث.

في المدرسة هل تنمي المناهج وطرائق التدريس أدوات التفكير الحر من بحث واستنباط واستدلال، أم تربّي على الحفظ والتلقين والاتباع؟ هل تفتح إمكانات تنمية الشخصيَّة المتكاملة عقلياً وجسدياً وروحياً أو تكتفي بتزويد الناشئة بوصايا و"مبادئ" توفر إمكانية شق درب وإيجاد مكان في المجتمع بأي وسيلة؟

أتوفر الدراسة الجامعيَّة في كافة مراحلها وسائل ومناخات التفكير الحر ومختبرات البحث أم تخضع الطلبة لسلطة النصوص والكبت الذهني والتنميط العقلي؟

 

تحديات خطيرة:

من المؤسف القول إنّ النظام التعليمي العربي، بكل مستوياته من الحضانة حتى الجامعة، يرسّخ بشكلٍ متعمّدٍ وبإصرار، القيم النقيضة للحريَّة والانطلاق وتفتح الملكات الذهنيَّة، ويضعف المناعة في وجه تحديات العولمة. وحيث يهدر دور العقل في البيت والروضة والمدرسة وبشكلٍ خاص في الجامعة، يجري تدعيم أشد الأنظمة السياسيَّة تخلفاً ومحافظة. حينما يغدو التعليم في جميع مراحله تلقينياً يجري إنتاج الرجل المطيع الذي ينتظر التعليمات وهو غير المزعج. وفي ظل التجهيل بنواميس حركة المجتمع وسبل حل المشكلات الاجتماعيَّة في عالم متداخل، تغلف الوعي الاجتماعي ضبابية تطرح "الحلول" المبهمة، وبالنتيجة تشيع النظرات الأصولية ذات التوجه الماضوي في مجال الفكر والثقافة.  فمناهج التعليم العربية حاضنة للأصولية، وتكمل الخللَ سياساتُ الإفقار الاقتصادي والقمع السلطوي، فتفرخ النزعات الإرهابية.

 

وفي الواقع، إن الحماسة الدينية القائمة على التعصب والتطرف والتصلب في الرأي، بعكس الإيمان العادي، تنشأ في ظروف الدفاع عن مصلحة، وتولد الاتجاهات التعصبيَّة بمرور الزمن، وتترك الأثر السلبي في نفوس الآخرين حتى وإن لم يصدر منه ما يسيء، ولكنه يتعامل بخشونة واضحة وسلوك بعيد عن التسامح، وهو إزاء ذلك يعادل ويساوي سلوك الاضطراب العصابي.  فالتصلّب الذهني نقيض للمرونة، والتعصب انغلاق يناقض الانفتاح والتقبل، وهي السمات ذاتها لدى مرضى العصاب. ولو استعرضنا بعض معايير الصحة النفسيَّة لوجدنا أنّ أولها هو تقبل الفرد لنفسه وللآخرين، وثانيها المرونة والقدرة على التكيُّف والتعديل والتغيير بما يتناسب مع ما يجدّ على المواقف حتى يحقق التكيُّف. وقد يحدث التعديل نتيجة تغيير يطرأ على حاجات الفرد أو أهدافه أو بيئته، وهناك العديد من المعايير الأخرى مثل التوافق الاجتماعي، والاتزان الانفعالي، والقدرة على التصدي للإحباط، فضلاً عن التكيُّف مع المطالب أو الحاجات.

 

إنّ تسيس الدّين يعني أدلجة الدّين بإنزاله إلى ميدان العلاقات السياسيَّة المتسمة بالألاعيب وحركات الالتفاف والمراوغة والكيد والإكراه. وهذا ما يضعف طاقته الروحيَّة، فالسياسة تلجأ أولاً إلى الإكراه، الذي نهى الله تعالى عنه "لا إكراه في الدين"، أفأنت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين؟ وهو كذلك تشويهٌ لمبادئ الدين وقيمه المطلقة وذات الطابع الإنساني الشامل، كما في قوله تعالى: "فذكر إنّما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، وعن الرسول الكريم قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولذلك، فإقحام الدّين في التحزّب لموقف اجتماعي، وهذا هو جوهر النشاط السياسي، إنّما يجعل منه ديناً خاصاً بطبقة معينة دون سائر الطبقات الاجتماعيَّة، وهي الطبقات المحافظة ذات القدرة على توظيف الوُعّاظ والدُّعاة، وهي كذلك صاحبة الباع الطويل في فنون التحايل والتزييف، وبخاصة فيما يتعلَّق بالغموض. والإعجاز البلاغي للقرآن يتعارض والتفسيرات المبسترة والسطحية لبعض الآيات القرآنية، وبخاصة أنّ هناك آية أو أكثر تناقضها ظاهرياً، بينما تتكامل معها أو تنسجم من حيث الجوهر. الاستبداد باسم الدّين خروج بالمطلق على الدّين "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".

 

وليت المشكلة تقف عند هذا التحدي. فهناك تحدٍّ آخر يقاوم العملية التربويَّة والمجتمعات العربية بشكل عام تستحيل مقاومتة بالهرب إلى الماضي، أو اللوذ بأدواته الفكريَّة وأنماط علاقاته الاجتماعيَّة. والتحدي الثاني المتمثل في العولمة يعمّق تحدي الصياغة التحرُّرية للإنسان، ويزيدها استفحالاً. فالثورة الإعلاميَّة اليوم قد أصبحت أمراً واقعاً من المستحيل تجاوزه. والعالم، وكما يُؤكِّد المواكبون للحياة الثقافيَّة الدوليَّة، يتجه باطراد نحو مجتمع الإعلام والمعرفة، تلك المرحلة من تطور الجنس البشري التي اصطلح على تسميتها بالموجة الثالثة (بعد الزراعة والتصنيع).  إنّ الانتشار الهائل لوسائل الإعلام من شأنه أن يُحدث تغيرات هائلة في البنى الذهنيَّة وأنماط التفكير وسيرورة اتخاذ القرار في مختلف المجالات، وهو ما من شأنه أن يؤثر بشكل أو بآخر في مشروع صناعة الإنسان الذي من المفترض أن تضطلع به العملية التربويَّة وحدها. فهذا الاختراق الثقافي من خارج الحدود الجغرافية والثقافيَّة الوطنيَّة لمختلف أنساق القيم المحليَّة وأنظمة إنتاج الثقافة الوطنيَّة، أصبح يتوافق والحديث عن الإنسان العالمي ومواطن الانترنت المندرج في مجتمع كوني واحد متحرر من انتماءاته اللغويَّة والقوميَّة والثقافيَّة والدينيَّة والجغرافية. تعرض على الشاشات الصغيرة أنماط من التفسخ الأسري تبدو طبيعيَّة، كذلك ممارسات الجنس والإباحية وأنماط شتى من الخلل الاجتماعي المتناقضة مع القيم المحليَّة.

 

والمجتمعات الغربية تستوعب مثل تلك الاختلالات، بينما يستحيل على المجتمعات العربية أن تستوعبها دون هدم ركن أساس من أسس الهوية. أي أنّنا بصدد عولمة الأنا، وتحويل الهوية من ثم إلى مجرد أسطورة، والسير نحو التنميط الثقافي من خلال تدمير الثقافات المحليَّة، وتمرير نموذج ثقافي واحد يسهم في وأد حاسة النقد والمناعة الثقافيَّة لدى المتلقي الذي يصبح قابلاً لتمرير جميع القيم والمواقف السلوكيَّة وتلقيها دون اعتراض عقلي أو مناعة نفسيَّة.

 

تحدّيان وخطورتان يتمخض عنهما الإخفاق في توجيه العملية التربويَّة بما يخدم التنمية الاجتماعيَّة وصياغة الإنسان المؤهل لتأدية دور قوة الإنتاج الأساس في مجتمع تنموي ديمقراطي تقدُّمي. وقد رصد الدكتور إبراهيم بدران، الباحث الأردني في قضايا الثقافة، ظاهرة الفجوة بين ثقافتين داخل المجتمع العربي الواحد: ثقافة النخبة والثقافة المجتمعيَّة. وَعَدَّ الباحث الفجوة هذه أحد معالم التخلف الاجتماعي، فكتب يقول "هذه الفجوة تتسع في المجتمعات المُتقدِّمة فقط وفي الجوانب التخصُّصية الدقيقة أو في الإبداعات الطليعيَّة الجديدة. ولكنها تضيق تماماً في الحياة اليومية وفي أسلوب التفكير وفي الاحتكام إلى العلم والعقل وفي الارتباط بمُتطلَّبات المجتمع المدني، وفي التزام القانون وحسن الحاكميَّة، وفي الاشتراك في مُنظَّمات المجتمع المدني وكل النشاطات الاجتماعيَّة المُتعلِّقة بالإنتاج السلعي والخدمي والمعرفي". في هذه المجالات ترتقي ثقافة المجتمع عامة إلى مستوى ثقافة النخب، وذلك بفضل البرامج التعليميَّة في البلدان المُتقدِّمة.

 

وفي الكتاب المشار إليه عقد بدران مقارنة لعناصر الثقافة المجتمعيَّة بين بلدين، هما بلده الأردن وكوريا الجنوبية، وكانا قبل حقبة زمنيَّة قصيرة على المستوى نفسه. ويتساءل بدران باستغراب: ما الذي حدث خلال (30) أو (40) سنة حتى وصلت كوريا إلى دولة ناهضة يصل نصيب الفرد من الناتج الإجمالي فيها إلى (10) آلاف دولار؟ ما الذي حدث في المجتمع فأوصل كوريا إلى الحالة الرقميَّة الباهرة المبينة في الجدول وفي مدة وجيزة، بينما الأقطار العربية مثلاً تراوح مكانها؟ ما الذي حدث في المجتمع الكوري حتى استطاع أن يُحقِّق هذه القفزة؟

 

 

كوريا

الأردن

نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (دولار)

9600

1750

الصادرات الإلكترونية (دولار لكل فرد)

1324

35

البطالة            

4.1%

15%

الإنفاق على الصحة لكل فرد (دولار)

518

131

الإنفاق على التعليم لكل فرد (دولار)

394

97

الإنفاق على الكتب لكل فرد (دولار)

17

اقل من 5

الاختراعات المسجلة سنوياً لكل عشرة آلاف من السكان

9.3

---

الإنفاق على البحث والتطوير (دولار لكل فرد)

260

3.5

المرأة في القوى العاملة (نسبة مئوية)

44%

15%

المرأة في القوى العاملة الماهرة

34%

غير متوفر

 

يعلق بدران على الموازنة فيقول: "إنّ قراءة الأرقام تبين بكل وضوح أنّه كان هناك جهد ضخم لتطوير الثقافة المجتمعيَّة حتى تستطيع الكتلة الاجتماعيَّة أن تتجاوب مع مُتطلَّبات القفزة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة. ويشمل ذلك إزالة الأمية والتوسع في الإنفاق على التعليم ورفع نوعيته وتحسين اقتصاديات مصادر التعلُّم، وتمكين المرأة وإطلاق إمكاناتها لينتج كل ألف من السكان اختراعاً مسجلاً كل عام. فهل كان من الممكن أن يتحوَّل المجتمع إلى مجتمع غزير الإنتاج غزير الاختراعات ما لم تكن ثقافة المجتمع قد اتجهت نحو العلم والتكنولوجيا والإنتاج والابتكار والإبداع؟ وما نراه في كوريا ينسحب على جميع الدول الناهضة ابتداءً من قبرص ومروراً بماليزيا وسنغافورة واليابان والأرجنتين وغيرها. وبعبارة أخرى إنّ تطوير الثقافة المجتمعيَّة في الاتجاهات الحداثية يشكل واحداً من الشروط الأساسيَّة للنهوض والانطلاق". وبالطّبع، ما نراه في الأردن يندرج على الأقطار العربية والإسلاميَّة باستثناء ماليزيا.