بيئة التفكير كما تراها "نانسي كلاين"

تنطوي بيئة التفكير الخاصة بنانسي كلاين (Nancy Kline) على ملاحظة واحدة وسؤال واحد؛ أما الملاحظة فهي أنَّ "جودة كل ما نقوم به تعتمد على جودة تفكيرنا أولاً"، وهي عبارة لها دلالات كبيرة، وأما السؤال المترتب على ذلك فهو: "ما الذي يحتاجه الناس لمساعدة بعضهم بعضاً على التفكير تفكيراً جيداً؟".


ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة كارول ويلسون (Carol Wilson) والتي تُحدِّثنا فيه عن "بيئة التفكير" من وجهة نظر الكاتبة "نانسي كلاين".

لقد شرحت "نانسي كلاين" هذه الملاحظة وطرحت هذا السؤال منذ أكثر من عقدين من الزمن بعد أن أسست مدرسة كوتشينغ في موطنها الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما طرحت السؤال على الناس، لاحظت أنَّ الإجابة لا تتعلق بمعدل الذكاء أو التعليم أو الخبرة؛ فقد اتضح أنَّ العامل الأكثر أهمية في جودة تفكير المرء هو طريقة تعامل الناس معه.

واصلت نانسي اكتشافها وحدَّدت عشر طرائق موثوقة في هذا الصدد، والتي أصبحت تُعرف لاحقاً باسم "المكونات العشرة لبيئة التفكير"، كما في الجدول التالي:

  1. الانتباه

الإصغاء باحترام ودون مقاطعة.

  1. المساواة

معاملة بعضنا بعضاً كأقران مفكِّرين؛ وإعطاء القدر نفسه من الوقت والانتباه لكل شخص؛ وحفظ الاتفاقيات والحدود.

  1. السهولة

التحرر من الاندفاع الداخلي والإلحاح.

  1. التقدير

إبداء اعتراف حقيقي بصفات المرء؛ بحيث تكون نسبة النقد تساوي خُمس نسبة التقدير.

  1. التشجيع

التشجيع على الأفكار الخلاقة والجديدة من خلال تجاوز المنافسة الداخلية.

  1. المشاعر

السماح بإطلاق المشاعر لاستعادة التفكير.

  1. المعلومات

توفير الحقائق؛ ومعالجة الإنكار.

  1. التنوع

الترحيب بالأفكار المتباينة والهويات الجماعية المتنوعة.

  1. طرح أسئلة حاسمة

التخلص من الافتراضات التي تحد من قدرتنا على التفكير لوحدنا بوضوح وإبداع.

  1. المكان

إنشاء بيئة مادية تُشعِر الناس بأهميتهم.

يمكن إنشاء بيئة التفكير هذه بين شخصين بحيث يكون هناك شراكة في التفكير تضم المُفكِّر (وهو مَن يتلقى الكوتشينغ) والشريك (الكوتش)، أو بين جماعة من خلال عقد اجتماع لجنة خبراء أو أي نوع آخر من الاجتماعات.

بالنسبة إلي، إنَّ أهم عامل في بيئة التفكير الموصوفة أعلاه هو جودة الانتباه عند الإصغاء، على أن تساهم بعض العناصر الأخرى في تحسين هذه الجودة، لا تقصد نانسي كلاين هنا الإصغاء غير الفعال؛ فهي تصفه بالانتباه الذي يمنحه الشريك للمفكر والذي يجب أن يوازن بين ثلاث مراحل بالتساوي من أجل جلسة تفكير فعَّالة:

"في المرحلة الأولى، يكون انتباه الشريك إلى محتوى ما يقوله المُفكِّر.

في المرحلة الثانية، ينصب انتباهه إلى استجابته لما يقوله المُفكِّر.

في المرحلة الثالثة، ينصب انتباهه إلى إنشاء بيئة تفكير للمُفِّكر".

تُدعم نظريات نانسي كلاين من خلال هيكليات عملية إن التُزِمَ بها ستُمكِّن المُفكِّر من حل المشكلات، واكتساب بعض الوضوح، وإيجاد طريقة للمضي قدماً؛ حيث تبدأ جلسة التفكير بسؤال بسيط:

"ما الذي تود أن تفكر فيه وما هي أفكارك؟".

حيث يصبح المُفكِّر عندئذٍ قادراً على التحدث عن وضعه كما يشاء، ويكمن الحل هنا في عنصرين هما؛ الانتباه الشديد من طرف الشريك، ومعرفة المُفكِّر بأنَّه لن يُقاطَع، وهنا تكمن أهمية التفاهم الذي يحدث قبل المحادثة بحيث يعرف المُفكِّر أنَّه سيُمنَح وقتاً كافياً للتحدث وبأنَّه سيُصغَى إليه بانتباه.

في النهاية، غالباً ما يصل المُفكِّر إلى مرحلة يقول فيها كل الأفكار التي تراوده، فيتوقف عن الكلام، وهنا يسأله الشريك: "هل لديك المزيد من الأفكار التي تريد طرحها؟".

قد تبدو عبارة "هل لديك المزيد" غير طبيعية عندما تُقال في بعض المواقف، ومع ذلك، إنَّ طرح سؤال مثل "ماذا لديك غير ذلك؟" قد يقود المُفكِّر إلى موضوع آخر، بينما "ماذا لديك غير ذلك بخصوص هذا الموضوع؟" قد يُبقيه في الموضوع نفسه .

لقد جُرِّبت هذه العملية واختُبِرَت على مدار سنوات عديدة؛ لذا من المفيد الالتزام بالكلمات الدقيقة حيثما أمكن ذلك، وعلى أي حال، إنَّ راحة المُفكِّر وعلاقة الشراكة المتينة هما عنصران أساسيان في مساعدة المُفكِّر على التفكير بوضوح أكثر، لذلك يمكن تغيير الكلمات إذا لزم الأمر مع ضمان تلبية هذه الشروط.

قد يُفاجأ المُفكِّر بعدد الأفكار المختلفة التي تخطر في باله عندما يُطلب منه التفكير بحرية أكثر، وبما أنَّه يعمل في إطار بيئة التفكير التي أنشأها الشريك، فلديه الوقت الكافي للتعبير عنها واستكشافها، وفي الحقيقة، غالباً ما نكتشف ما نفكر فيه من خلال التحدث بصوت عالٍ، وهذه إحدى الفوائد الأساسية لهذه العملية.

 يمكن طرح أسئلة مثل: "هل لديك المزيد من الأفكار؟" عدة مرات إلى أن تنتهي مناقشة جميع الأفكار، وحينئذٍ يكون المُفكِّر جاهزاً لتحديد ما يُعيق تحقيق أهدافه.

وهنا يتدخل الشريك تدخلاً فعالاً من خلال طرح ما تسميه نانسي "الأسئلة الحازمة"، وتحدث هذه العملية من خلال:

  • تحديد ما قد يكون افتراضاً مُقيِّداً، على سبيل المثال "لا أحد يُصغي إليَّ هنا".
  • طرح سؤال لإزالة هذا الاعتقاد، على سبيل المثال: لو علمت أنَّ صوتك سيكون مسموعاً، فماذا كنت ستقول، ولمَن؟

قد تكون بعض الأسئلة المماثلة لذلك:

  • ما الافتراض الذي تفترضه والذي يعترض طريقك؟
  • إن كنت تعرف أنَّك ستصبح الرئيس، فما المشكلة التي ستحلها أولاً، وكيف؟
  • إن كنت تعلم أنَّك عنصر هام لنجاح هذه المنظمة، فكيف ستتعامل مع عملك؟
  • إن كان من الممكن أن تكون الأمور مناسبة لك تماماً، فكيف يجب أن تتغير لتحقيق ذلك؟

من الهام أن ندرك أنَّ الافتراض المُقيِّد ليس بالضرورة وهمياً؛ فجوهر الأمر هو مساعدة المُفكِّر على مواجهة المشكلة والنظر إليها من زوايا مختلفة.

إنَّ بيئة التفكير فعَّالة للغاية في العمل الجماعي والاجتماعات، وإحدى التقنيات هنا هي "جولة التفكير" والتي تضمن حصول الجميع على فرصة لقول كل ما يريدونه، وكما هو الحال مع شراكة التفكير بين شخصين، يُعدُّ التفاهم في بداية الاجتماع هو ما يجلب القيمة الأكبر.

"إنَّ المقاطعة في أثناء الحديث ليست بالأمر الجيد، وأن تكون محظوظاً بحيث لا يُقاطعك أحد هو أمر رائع، ولكنَّ الأفضل من كل هذا هو معرفتك بأنَّك لن تُقاطع، مما يجعلك تُفكر لوحدك دون مساعدة أحد".

تتشابه مبادئ بيئة التفكير مع الكوتشينغ، والتي طُوِّرَت خلال الفترة الزمنية نفسها؛ إذ يتعلق كل منهما تعلقاً أساسياً باحترام الناس، والاهتمام بسلامتهم وتنميتهم، وإنشاء علاقات مبنية على الثقة، وتُستخدم أيضاً بعض الأدوات المماثلة في الكوتشينغ، مثل "اللهجة المحترمة" وهي عملية إصغاء فعالة أخرى، ونموذج "المعتقدات المُقيِّدة" الذي تتبناه البرمجة اللغوية العصبية.

تكمن إحدى الاختلافات في أنَّ نانسي لا تنصح بمقاطعة المُفكِّر واستخدام كلماته الخاصة لتلخيص ما قاله، وهو أسلوب شائع يستخدمه الكوتشز، فبعد أن تلقَّيتُ الكوتشينغ على يد "نانسي" في أثناء تقديمي لعرض توضيحي، تمنيت لو أنَّها قاطعتني باستخدام أساليب الكوتشينغ العادية في التوضيح والتفكير والاستجواب.

على أي حال، لقد اكتشفت لاحقاً أنَّ غرضي من ذلك كان توفير فرصة تشتيت تُمكِّنني من تجنُّب مواجهة بعض المشكلات الصعبة؛ فعندما لم تمنحني "نانسي" أي شيء سوى قول: "هل لديك المزيد من الأفكار؟"، اضطررت لمواجهة تلك المشكلات، ونتيجةً لذلك، حققت إنجازاً لم يكن متوقعاً، ومع ذلك، لن أستبعد أساليب الكوتشينغ التي تقوم على التدخل والمقاطعة من مجموعة المهارات كونها قد تكون فعَّالة في بناء علاقة متينة، وتساعد على التركيز في بعض المواقف.

يُسلِّط عمل "نانسي" الضوء على فاعلية الإصغاء إلى الناس، لكن هناك الكثير من الجدل بين الكوتشز - خاصةً الذين يعملون في التدريب - حول ماهية الأسئلة الأكثر فاعلية التي يجب طرحها، والتقنيات التكميلية التي ستُقدِّم رؤى جديدة للعميل، والهيكليات التي يجب استخدامها وكيفية الانسجام مع العميل في محادثة الكوتشينغ.

فإذا لم نكن حذرين، يمكن أن تكون النتيجة النهائية سيطرة الكوتش على كامل العملية بحيث يكون متحمساً لخطف الأضواء وتقديم الحلول بدلاً من التركيز على تجربة المُتلقِّي.

عندما يتعلق الأمر بحياة نانسي كلاين الخاصة، فإنَّها تُطبِّق ما تقوله، وتُقدِّم دوراتها في بيئة مذهلة على ضفاف نهر، ولا يقتصر الأمر على هذه البيئة المريحة فحسب؛ بل تُقدِّم وجبات غداء ممتازة أيضاً، كما أنَّها تحترم جميع المبادئ التسعة الأخرى لبيئة التفكير لا سيَّما مبادئ الإصغاء والتقدير الحقيقي، ويعد هذا انعكاساً دقيقاً للتأثير الذي تُحدثه هذه المرأة البليغة والرائعة في كل شخص تتعامل معه.

لقد كان الدرس الأهم الذي استقيته خلال الوقت الذي قضيته في الدراسة مع "نانسي" هو تعزيز قوَّة الإصغاء، والانتباه الشديد، والتفاهم على القيام بذلك منذ البداية بحيث يتعين على المُفكِّرين أو الذين أُقدِّم لهم الكوتشينغ التركيز على أفكارهم الخاصة فقط دون أي تشتيت.