الوصول إلى حالتك التعليميَّة المثلى

إذا استعرضت شريط حياتك، فستتذكَّر لا ريب مرّة واحدة على الأقل كان التعلُّم فيها بالنسبة إليك جيداً بصفة استثنائية إلى الحد الذي مازال يحتل مكانة نابضة بالحيوية في ذاكرتك. وقد تتمثل هذه الحالة في ورشة عمل، أو كتاب لامع، أو محاضرة مثيرة، بدا لك أنّك تفهم كل كلمة يقولها المحاضر، بل تتوقع ما سينطق به من كلمات، وتشعر بصفاء ذهن غير عادي، إنّي أطلق على هذه الحالة "حالة التعلُّم المثلى" في حين يسميها آخرون "قمة الأداء" أو "حالة التدفق" أو "النطاق" أو "قمة حالة التعلُّم".



ومنذ عقد الستّينيات، عكف علماء من تخصصات عديدة على دراسة "حالة التعلُّم المثلى". وقد وصفها "ميهالي شكز نتميهالي" الباحث في جامعة "شيكاغو" بأنّها حالة من التركيز ترقى إلى مستوى الاستغراق المطلق في هذا الشعور الرائع بتملك لمقاليد الحاضر وأدائك وأنت في قمة قدراتك. وفي حالة "التعلُّم المثلى" تكون في حالة من الاستغراق الكامل فيما تتعلَّمه، ويكون الفهم في أقصى درجاته.

تخيّل كيف يكون الاستغراق في الأفكار والمعلومات الجديدة إذا استطعت إدخال كل موقف تعليمي في "حالة التعلُّم المثلى" الخاصة بك بالطريقة نفسها التي ينتهجها أساطير التعلُّم. إنّ أفضل ما تحقق أنّ الأمر أصبح في استطاعتك. ونتيجة لجهود "نتميهالي" ورفاقه، تمكن العلماء من وضح خريطة "لحالة التعلُّم المثلى" والخطوات التي تؤدي إلى بلوغها حيث إنّه بالجمع بين التنفس العميق والاسترخاء، وبعض التأكيدات البسيطة، سيكون في مقدورك الولوج إلى عالم "حالة التعلُّم المثلى" في أيّ وقتٍ تراه بقليل من التحضيرات الأوليَّة المُسبَقة، كما يمكنك أن تتعلم أسلوباً تقنياً خاصاً لاسترجاع المعلومات عقب أي وضع تعليمي قد يفاجئك دون تحضير مُسبَق كما لو كنت مُطبَّقاً لقواعد "حالة التعلُّم المثلى".


تنشيط حالة التعلُّم المثلى الخاصة بك:
لم تعد "حالة التعلُّم المثلى" أمراً عشوائياً، يأتي ويذهب أحياناً وقتما يشاء. لأنّك تستطيع أن تدخل إلى "حالة التعلُّم المثلى" متى اقتضت الضرورة وذلك بتحضير بسيط للغاية. وكانت الأبحاث المُبكِّرة في "حالة التعلُّم المثلى" قد ربطتها بموجات (ثيتا) وقد بينت الفحوص التي أجريت بجهاز "الموجات المخية" أنّه عندما يكون تعلُّمنا في قمته، فإنّ المخ يبث موجات كهرومغناطيسية في النطاق الذي يتكوَّن من أربعة إلى سبعة أشواط في الثانية الواحدة، والمعروف بنطاق أشعة (ثيتا). ومن المعلوم أن معظم الحالات الرئيسة لمرحلة الوعي بدءاً من النوم إلى الوعي التام تبث أشعتها المخية الخاصة بها.


وتتدرج أشعة المخ عادة من الأبطأ إلى الأسرع كما يأتي:

  • موجات دلتا (1ـ 3 أشواط في الثانية) مرحلة النوم العميق بدون أحلام.
  • موجات ثيتا (4ـ 7 أشواط في الثانية) العواطف المتأججة أو التركيز.
  • موجات ألفا (8ـ 12 أشواط في الثانية) الاسترخاء والتأمل.
  • موجات بيتا (18 ـ 40 شوطا في الثانية) الإدراك الواعي والأحلام.

وتكمن مشكلة الساعين إلى الوصول "إلى حالة التعلُّم المثلى" في الافتقار إلى أي طريقة معلومة يمكن لأي فرد أن يشغل بها عن عمد فتيل موجات ثيتا (4ـ7 أشواط في الثانية)، وهو موضوع أصاب الباحثين بالإحباط طيلة عدة سنوات قبل أن يلاحظوا شيئاً يبعث على الاهتمام. تمثلت هذه الملاحظة في أنّ أشعة ثيتا في حالة التعلُّم المثلى وأشعة ألفا المرتبطة بالاسترخاء العميق يقعان جنباً إلى جنب وبفارق شوط واحد فقط في الثانية فيما بينهما.

وفي العادة فإننا نفكر في كل من الإبداع المُكثَّف والاسترخاء الهادئ كأنّهما شيئان مختلفان تماماً. غير أنه في ضوء نطاقي شوطيهما في الثانية الواحدة يتبين بكل جلاء أنّ المُكوَّنات العقليَّة في حالة الاسترخاء العميق وحالة التركيز على ارتباط وثيق.

والنقطة الرئيسة في هذا الأمر أنّ أشعة ثيتا الخاصة بحالة التعلُّم لا يمكن استحضارها عن وعي في حين يمكن ذلك بالنسبة إلى حالة الاسترخاء العميق. ونظراً لأنّ الفارق بين الحالتين هو شوط واحد فقط في الثانية، فقد حفز ذلك إلى وضع أسلوب ثلاثي الخطوات يتم بمقتضاه دفع الجسم والعقل إلى حافة "حالة التعلُّم المثلى" ثم إبطاؤها بحيث إنّ الشوط الواحد الزائد البالغ الأهمية في الثانية الواحدة هو الذي يضطلع بتنشيط حالة التعلُّم المثلى ذاتها.


والخطوات الثلاث هي:

  1. استخدام التنفس العميق لتأسيس حالة التعلُّم المثلى.
  2. استخدام الاسترخاء لتعميق حالة التعلُّم المثلى.
  3. استخدام التأكيدات لتثبيت حالة التعلُّم المثلى.

لا تهمل هذه الخطوات إن أردت مضاعفة قوة عقلك، فليس هناك وسيلة أهم منها.

 

استخدام التنفس العميق لتأسيس حالة التعلُّم المثلى:
يُعَدُّ التنفس العميق أبرز العناصر الأساسيَّة الداخليَّة في إيجاد "حالة التعلُّم المثلى" وإذا لم تكن قد جربت هذه الوسيلة بعد، فلك أن تنحي جانباً فكرة أنّ أي شيء شائع، وعادي ومسلمٌ به كالتنفس يمكن أن يجعل منك مُتعلِّماً مُتميِّزاً. وقد تبدو هذه الخطوة شيئاً ما يكون بنوعٍ من الهراء العلمي الأخرق، أو السرّي أو الخفي. غير أنّ هناك كماً هائلاً من البراهين العلميَّة غير القابلة للطعن التي تُؤكِّد أنّ في وسع التنفس العميق إيجاد الظروف التي تستند إليها في الأساس جميع تجارب التعلُّم الأمثل. وللتنفس تأثيرات فعَّالة في عقولنا للأسباب الآتية:

  • يزيد في كميَّة الأكسجين المتاحة للمخ، حيث أنّ المخ يتطلَّب كما أكبر من الأكسجين عندما يعمل في قمة مستويات التعلُّم.
  • يعمل على استرخاء الجسد وتخليص العقل من التوتر.
  • يعمل على إنشاء دورة طبيعيَّة منتظمة الإيقاع تضبط المخ على حالة موجات ألفا من (8 ـ 12) شوطاً في الثانية.

 

استخدام الاسترخاء لتعميق حالة التعلُّم المثلى لديك:
من شأن تقنيات التنفُّس العميق المساعدة على تهدئة العقل، بينما تعمل على ضح الطاقة في الجسم والمخ. وتعمل هذه الأساليب التقنيَّة على نقل حالات المخ من موجات بيتا النشطة في نطاق (18-40) شوطاً في الثانية والمختصة بالوعي القياسي اليومي لتكون أقرب إلى نطاق (8-12) شوطاً في الثانية المختصة بالاسترخاء العميق، والذي يقع قريباً من حالة "حالة التعلُّم المثلى".

غير أنّك ما لم تقم بتعميق حالة الاسترخاء لموجات بيتا بطريقة ما، فسوف تفقدها. وإذا ما ترك المخ يعمل وفقاً لوسائله الخاصة، فسوف يتراجع سريعاً إلى نطاق (18-40) شوطاً في الثانية الخاص بالوعي اليومي، نظراً لأن العقل مصمم على العمل في هذا النطاق، ويقوم بسمحٍ مستمر لبيئتك وتوليد الأفكار الخاصة في جميع الأوقات.

ووفقاً للدراسات التي أجراها الدكتور "جيروم سنجر" عميد كلية الباحثين في الإدراك الواعي، أنّه بغض النظر عن أي شيء آخر تفعله، فإنّ عقولنا منضبطة على الاستغراق في الفكر. وتصنيف المعلومات واستخلاص الاحتمالات سواءً أكانت ممكنة أم غير ممكنة، عبر كل لحظة يقظة. وعندما تكون عقولنا خالية من أي شيء آخر، فإن ذلك سيساعد على تعظيم استخدام قوة العقل التي بخلاف ذلك قد تضيع هباءً.

ومع ذلك فإنّ البحث الذي اضطلع به عالم النفس الدكتور "إريك كلينجر"، يوضح أنّه لدى محاولتك التعلُّم، يصبح الوعي العادي عقبة أمام حالة ألفا و"حالة التعلُّم المثلى" التي تليها مباشرةً ويتمُّ استنفاد أكثر من خمسة وسبعين في المائة من وقتك على التعلُّم في "الاستغراق في الفكر وتصنيف المعلومات واستخلاص الاحتمالات" واكتشف "كلينجر" أنّ الجزء الصافي من المخ الذي يتبقى لاستيعاب معلومات جديدة وأداء المهام التي نضطلع بها إنّما يقل عن نسبة خمسة وعشرين في المائة.

غير أنّه من الممكن تهدئة هذه الأفكار، وتعميق الاسترخاء، وإطلاق قوة التعلُّم والاقتراب إلى درجةٍ أكبر من حالة التعلُّم المثلى. وقد كانت الوسائل الأساسيَّة في هذا الصدد معروفة تماماً عبر قرون عديدة وتمّ إقرارها من جديد في الآونة الأخيرة عبر جهود العلماء من أمثال الطبيب "هربرت بنسون" في البحث الذي قام به في إحدى مستشفيات "بوسطون" وهذه تحاول محاكاة الخشوع في الصلاة والدعاء لدينا فيما يمنحانه من هدوء وسكينة واسترخاء حيث يوضع الشخص في غرفة هادئة ومريحة وإخضاعه لسلسلة من التصوُّرات العقليَّة المهدئة وسرعان ما يبدأ مخه في بث أشعة ألفا. ووفقاُ للقياسات التي أجراها في مختبره الخاص على مثل هؤلاء الأشخاص، فإن عقولهم أصبحت هادئة، وتفهمهم منتظماً، ودخلوا في حالة من الاسترخاء العميق. وفي الوقت نفسه ارتفعت إلى درجة كبيرة نسبة الكيماويات المحفزة للمخ مثل: الإندورفين والبنزوديازيين في الدورة الدموية لهؤلاء الأشخاص، إضافة إلى المهضمات العصبية التي يتم إفرازها عادة حينما نشعر بالسعادة والتفاؤل والعظمة.

وقد أسهمت طريقة الدكتور "بنسون" في أن يكون العقل هادئاً، مطمئناً ومنتبهاً، وأن يكون الجسد في حالة استرخاء عميق إضافة إلى السهولة المذهلة في تطبيقها. وحسبما كتب "رونالد جروس" في مجلة "قمّة التعلُّم" فإنّ النتائج التي يحققها التنفس العميق في مجال التعلُّم "بالغ العمق والفائدة" حتى إذا استخدمت بمفردها.

تمرين:
إذا أتيحت لك عدّة دقائق لتجهيز نفسك قبل الانخراط في مجال التعلُّم، فبادر إلى تطبيق طريقة الدكتور "بنسون" للاسترخاء العميق فور انتهائك من الخطوات التمهيدية للتنفس العميق، ومن شأن هذه الطريقة وضعك على حافة "حالة التعلُّم المثلى":

  1. بعد عدة دقائق من التنفس العميق.
  2. عندما يعود تنفسك إلى حالته الطبيعيَّة، دع نفسك تركز على النفس المنساب في هدوء شهيقاً وزفيراً من طرفي فتحتي أنفك.
  3. إذا بدأ انتباهك يتبدد، وأفكارك يتناوبها التشتت فلا تنزعج، بل استرجع انتباهك في بساطة إلى متابعة حركة تنفسك حتى يبدأ في التباطؤ أو الوهن. (ولكن حاذر من أن تعمد إلى الاسترخاء عن وعي تام ـ فقط حاول الملاحظة في هدوء).
  4. من المفترض أن تكون قد بلغت في هذه اللحظة حالة الاسترخاء العميق و الهدوء العقلي و الوصول إلى حالة ألفا.


استخدام التأكيدات لتعميق حالة التعلُّم المثلى لديك:
عندما ينجح التنفس والاسترخاء في الوصول بك إلى حافة أو داخل "حالة التعلُّم المثلى" فسيكون في وسعك تعميقها والانتقال بنفسك فيما تبقى من المهمة إلى طريقة التوكيد.
والتوكيد هو بساطة توجيه تقوم ببثه إلى عقلك الباطن، تماماً مثلما ترسل توجيهاً إلى "وحدة المعالجة المركزيَّة" للحاسب الآلي الخاص بك. ومثل الحاسب الآلي تماماً، فإنّ العمل الفعلي لعقلك يتم بشكلٍ غير ظاهر، أي في العقل الباطن. ونظراً لأنّه لا يمكنك الاتصال مباشرةً بعقلك الباطن، فإنّك تتصل به بوساطة اللغة الخاصة به، كما تفعل مع الحاسب الآلي. وعليه فإنّ التوكيد هو "لغة البرمجة" التي يستخدمها العقل. والأمر المهم في هذا الصدد أنّ التأكيدات لها من القوة ما يضمن برمجة عقلك للتحول إلى "حالة التعلُّم المثلى" تماماً كالقوة الكامنة في الأمر الصادر إلى الحاسب الآلي للانتقال من برنامج إلى برنامج آخر. إنّ "حالة التعلُّم المثلى" حالة عقليَّة، والحالات العقليَّة تكون عرضة للخضوع للتأكيدات بصفة خاصة. ويقول "جروس" إنّي أعلم من خلال ممارستي الذاتيَّة ومن خبراتي مع طلبتي أنّ التأكيدات تستطيع أن تحقق إنجازات مدهشة في فتح العقول (أمام) أي تجربة تعلم.


وتذكَّر دوماً هذه القصة:
إنّ أول درسٍ تتعلَّمه عندما تريد تعلم الفروسية وركوب الحصان أنّه عليك ألّا تشد العنان وتركل الحصان، لأنّ شد العنان أمرٌ بالتوقُّف وركل الحصان أمرٌ بالجري، وعندما تتضارب الأوامر للحصان فعليك تحمل ردة فعله فقد تكون سقطة عنيفة، وهذا ما نفعله عندما نقول لأنفسنا إنّنا لا نجيد التعلُّم ونريد أن نفهم ونتعلَّم.
كرّر لنفسك العبارات الآتية، كل عبارة على حدة، في بطء وهدوء واقتناع:

  • إنّني مُتعلِّم لا يشق له غبار.
  • إنّني أجتاز حالة التعلُّم المثلى.
  • سوف أتعلم في سهولة وتعمق.
  • ما سأتعلمه سيكون مهماً وجذاباً لي.

الآن ومع تعزيزك لقدرتك العقليَّة عبر الانتقال إلى "حالة التعلُّم المثلى" سيكون في وسعك الانطلاق وإحراز أقصى فائدة من فرصتك في التعلُّم.


كيف تضاعف قدراتك الذهنيَّة للوصول إلى حالتك التعليميَّة المثلى (2)
الأستاذ محمد على شيبان