العولمة: جدل الثقافة والتربية

التربية حجر الزاوية في التصدي والتفاعل:

نصّار إبراهيم

قبل ثلاثين عاماً ربما لم يكن أحد ليتخيل أنّ ثورة التكنولوجيا والاتصالات ستبلغ هذا المدى الهائل، وقد لا يتخيل أحد اليوم ماذا وكيف ستكون عليه الأمور بعد عشر سنوات.



لقد تحولت ثورة الاتصالات والمعلومات إلى إعصارٍ كاسحٍ يتحرَّك ويتطور بما يشبه المتوالية الهندسية كماً ونوعاً، وتبدو العملية ضمن سياقاتها المعقدة وكأنها أصبحت خارج السيطرة، وباتت تتحرَّك بقوة دفع ذاتي مستقل.

في العام (1970) أصدر الكاتب الأمريكي ألفن توفلر كتابه صدمة المستقبل، وقد شكل في حينه نبوءة لما نعيشه الآن من عواصف على مستوى: العلاقات، والواقع، والوعي.

في حينه تحدث توفلر عن سرعة تدفق المعلومات وكميتها في وحدة الزمن، بحيث أصبح العقل الفردي في وضع العاجز عن الاستجابة، أو استيعاب الكم الهائل الذي يتلقاه من المعلومات.

فالعاصفة التكنولوجيَّة لم تتوقف تأثيراتها ومفاعيلها على الأبعاد الماديَّة لحياة الإنسان وسلوكه، بل اكتسحت مساحة الوعي، بحيث بدت سرعة إحلال المعلومات أو الأشياء واستبدالها مخيفة، سواءٌ على مستوى وسائل الحياة اليومية، أم على مستوى الظواهر الاجتماعيَّة، ونجم عن هذه العملية السريعة والمركبة سرعة مقابلة طالت الأشياء والأفكار والسلوك، وهكذا لم يعد المكان كما كان عليه وكذا الزمن، فتصاعدت وتيرة الاغتراب النفسي والاجتماعي.

 

نتحدث عن بدايات الظاهرة قبل أربعين عاماً، حيث لمّا يكن قد اكتشف بعد الكمبيوتر الشخصي أو شبكة الانترنت أو الفضائيات أو البريد الإلكتروني.

فماذا يمكننا القول الآن بعد أن باتت حتى مقولة "تحول العالم إلى قرية صغيرة" غير كافية لتوصيف الواقع؟ إنّه في الواقع أصبح أقل وأضيق من قرية، لقد تحول العالم إلى ما يشبه المنزل، حيث أصبح في إمكان الفرد ومن غرفة نومه أو حديقة منزله، وفيما هو يحتسي قهوة الصباح، أن يعقد الصفقات التجارية ويدفع فواتير الهاتف والكهرباء، وأن يتابع عملية جراحية في إحدى مستشفيات طوكيو، وأن يقوم بجولة في متحف اللوفر أو مكتبة البنتاغون، كما أصبح في إمكانه أن يدير مكتبه وهو على مقعد الطائرة، وكذلك يواصل دراسته الجامعيَّة، أصبح في مقدورنا الآن وخلال ثوانٍ أن ننتقل إلى أي مكان في العالم.

 

نعم، يحدث هذا الآن. لقد اجتاحت الثورة التكنولوجيَّة كل ميادين الواقع والوعي، هذه التحوُّلات المذهلة بكل ميادينها ترتبط بمفاهيم وعلاقات جديدة، إنّها تتحرَّك وفي الوقت ذاته تولد مفاهيمها وعلاقاتها ولغتها وأسئلتها وصعوباتها، غير أنّه ومن بين كل هذه المُتغيِّرات احتل مفهوم العولمة مركز الصدارة، إنّه المصطلح الأكثر تداولاً، كما هو الأكثر إثارة للجدل والسجال، ولم يبتعد عن الواقع كثيراً ذلك الكاتب الذي وصف العولمة بأنّها "الغانية" التي تدور على موائد الساسة والمثقفين وعلماء الاقتصاد والاجتماع ومنتدياتهم، إنّها ضيف دائم يثير التحدي والإرباك أمام الجميع، في هذه المقالة لن نخوض في تعريف هذه الظاهرة، وسنحاول الابتعاد وعدم الوقوع في مصيدة الانحراف المنهجي أو المعرفي الناتج عن إشكالية التمركز حول الذات، أو التخصص: الاقتصاد، الثقافة، الاجتماع، بما يقطع النقاش والمقاربة عن سياقاتها الشاملة، ومن ثمَّ تبدو الرؤية أو التحليل وكأنها نتاج النظر إلى مرآة محدبة لا ترى ذاتها إلا بصورة مضخمة، فمن هذا الإطار علينا التمييز بين جانبين عند التعامل وظاهرة العولمة:

 

  1. العولمة كونها ظاهرة موضوعية تاريخيَّة تعكس بصورة جدلية الحركة التاريخيَّة لتطور البشريَّة في الحقول كافة:

ومن ثمَّ فالعولمة هي نتاج طبيعي لتحولات وحركة التناقضات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة الفاعلة في المجتمعات البشريَّة، في إطار تفاعل الزمان والمكان، ومن ثمَّ فهي صيرورة تراكمية متواصلة بالمعنى التاريخي، وهنا لا فرق، سواء أأطلقنا على الظاهرة مفهوم العولمة أم العالميَّة، المهم أن يكون الأساس واضحاً.

فالاعتراف بهذه الحقيقة أو المقاربة يعني الاستعداد المعرفي للتعامل مع ما يرافق الظاهرة من تحولات وتناقضات، وبهذا المعنى فإنّ حركة الظاهرة الطبيعيَّة ليست حركة غائية في ذاتها، ومن ثمَّ فإنّها قابلة للتفاعل بالاتجاهين الإيجابي والسلبي.

 

  1. عملية استخدام مخرجات العولمة الاقتصاديَّة والعلميَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة واستثمارها

وفي هذا المستوى نصبح أمام عملية واعية وموجهة لها مُحدَّداتها ودوافعها وحواملها الاجتماعيَّة. ومن ثمَّ، فنحن أمام سلوك وممارسة لها مرجعية فلسفيَّة أيديولوجيَّة ومعرفيَّة تعود إلى صراع الطبقات ومصالحها، سواء أكان على المستوى المحلي أم الإقليمي أم الكوني.

 

بهذا المعنى تصبح العولمة أقرب إلى الأيديولوجيا، وتأسيساً على ذلك تصبح عملية الاستخدام عملية موجهة وغائية. ما نعيشه الآن، ونتيجة لاحتدام التناقضات الاجتماعيَّة والطبقية التي تأتي في سياق الاختلال الشامل في موازين القوى كونياً لصالح الدول الغنية، وأكثر تحديداً لصالح الاحتكارات الرأسماليَّة، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، هو أننا أمام عولمة تجري عبرها وبوساطتها عملية سيطرة وحشية على الشعوب والأمم، عملية الهيمنة والسيطرة هذه التي تستهدف إحكام قبضة الشركات العابرة للحدود على اقتصاد العالم تقوم، عبر احتكار المعلومات والتكنولوجيا، باستخدام هذا الاحتكار للسيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال أدوات عالميَّة مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والجات، ومجموعة الثمانية الكبار، وهي ضمن هذه الرؤيا والسياسة تستخدم الدولة الرأسماليَّة القوية لفرض سياساتها كونياً على الشعوب والأمم والدول النامية، هكذا يتحوَّل الاقتصاد إلى سياسة تنحصر أهدافها في خدمة الاحتكارات، والركض وراء الربح الفاحش، ونهب ثروات الأمم والشعوب وتحويلها إلى أسواق استهلاك لا أكثر.

 

وحتى تنجح هذه السياسة، فإنّها في حاجة إلى تدعيم هيمنتها بسيطرة عسكرية، بما في ذلك احتكار السلاح النووي، ومنع الدول الفقيرة من امتلاك هذه التكنولوجيا، وأي محاولة للخروج على إرادة الدول الإمبريالية سيتصدى له بالحصار والعقوبات والحروب. ومن ثمَّ، فإنّ الطبقات الحاكمة في الدول الفقيرة والنامية ليس أمامها سوى الخضوع والقبول بدور التابع أو السمسار للدول الغنية، ومن يتجرأ على رفض هذا الدور يتوجب إزاحته وتغييره، غير أن هذه العملية الاقتصاديَّة السياسيَّة لا تتم هكذا ببساطة وسهولة، إذ إنها مطالبة بتقديم ذاتها في إطار شامل ومتناغم على الصعيدين الثقافي والأيديولوجي، إنّها في حاجة إلى تسويغ معرفي، هنا تأتي الثقافة بصفتها قوة روحيَّة ومعنويَّة وميداناً شاسعاً للفعل.

 

الدّول الإمبريالية والطبقات المهيمنة، وبهدف إعادة إنتاج هيمنتها وتشديد استغلالها، تستخدم كل وسائل السيطرة الفكريَّة والثقافيَّة، بما في ذلك احتكار المعرفة والمعلومات، وفي الوقت ذاته نشر ثقافتها وقيمها وأيديولوجيتها بهدف إعادة صياغة الثقافة العالميَّة وفق مقاييسها ومعاييرها، هذه العملية مركبة ومعقدة إلى أبعد الحدود، وهي تجري في كل الميادين، وبما يشمل القيم والتراث والوعي والأدب والموسيقا والسينما والمسرح والشعر، وأيضاً الملابس والطعام.

إنّ تسويغ الهيمنة الاقتصاديَّة والسياسيَّة وتسويغها يستدعي غطاء ثقافياً، وهذه العملية الثقافيَّة تأخذ أكثر من اتجاه لتصب جميعها في النهاية في الهدف ذاته، وأول اتجاه رئيس للضربة الثقافيَّة الرأسماليَّة يتمثل في إعلان انتصار النظام الرأسمالي بصور حاسمة، "نهاية التاريخ".

 

فليس أمام البشريَّة سوى طريق واحد للتقدم والتطوُّر هو ذاته الطريق الرأسمالي، ومن ثمَّ فإنّ البحث عن طريق آخر هو مضيعة للوقت وتبديد للطاقات والثروات. هذه الرؤيا التي عبّر عنها المنظر "فوكوياما" تحمل بعداً عنصرياً ووعياً مزيفاً، إنّها تعني أنّ أرقى ما وصلت إليه البشريَّة هو التجربة الرأسماليَّة الغربية، وبخاصة النموذج الأمريكي، وليس أمام بقية شعوب العالم سوى السير على الطريق ذاته، والقبول بالدور القيادي للولايات المتحدة وتبني نموذجها، إذ إنها القوة الكونية القادرة على قيادة العالم والتفكير عنه، وأيُّ محاولةٍ من الشعوب الأخرى للبحث عن بديل ليست سوى تبديد لثروات البشريَّة، ومن حق القوة القائدة ردعه وإجباره على التزام الطريق المُقرَّر، هكذا يغدو أي حزب أو حركة أو شعب يعارض إرادة الهيمنة الرأسماليَّة الأمريكية عدواً للتقدم والحريَّة، فحريَّة السوق الرأسماليَّة تعني تحرير الجميع من أي التزام تجاه الذات، وفقط الانضواء إلى القطيع وراء الإمبراطورية القائدة.

 

وبما أنّ النموذج الرأسمالي هو نهاية المطاف، وبما أنّ النموذج الأمريكي هو أرقى نماذج التجربة الرأسماليَّة، إذاً من الطبيعي القبول بعملية أمركة العالم، كونها الطريق الوحيد للتقدم والتطوُّر، ولكي تنجح العملية، يجب القفز من فوق الخصوصيات القوميَّة والثقافيَّة وإعادة صياغة الذات الثقافيَّة وفق الاستمارة الأمريكية، على هذا النحو يصبح أي شعب أو جماعة لا تنضبط لهذه المعايير خارج التاريخ وخارج القطيع، ما يستدعي العقاب، إذاً ضمن مفهوم العولمة الأمريكية يتم تحديد المرجعية الفكريَّة والثقافيَّة للبشريَّة التي ليس أمامها سوى الاستجابة والتكيُّف مهما كان الثمن.

الإقرار بهذه المرجعية يستدعي عملية مرافقة تتمثل في إعادة صياغة ثقافة الأمم والشعوب والجماعات، وهذه تتم عبر ديناميتين:

 

  1. إلغاء الخصوصيات وإدغامها في النموذج العام المهيمن

ويشمل ذلك احتقار عادات الأمم والشعوب وتقاليدها وتراثها وثقافتها القوميَّة والإثنية والدينيَّة، أو احتواءها وتفريغها من محتواها الإيجابي.

 

  1. إطلاق دينامية التفتيت والشرذمة والتناقضات ذات المضمون الطائفي والديني والإثني:

لدفع المجتمعات إلى فقدان اليقين، والشك في الذات، وصولاً إلى اليأس والإحباط. ضمن هذا السياق تأتي عملية تمزيق الدول وإشعال الحروب الطائفية والإثنية في العراق وأفغانستان. وفي الوقت الذي تجري فيه عملية إلغاء الخصوصيات والقفز من فوقها واحتقارها، تجري عملية مرافقة تتمثل في تعميم النموذج الثقافي الأمريكي، وهنا نصبح أمّام عملية هائلة ونماذج مذهلة تبدأ من أصغر الأشياء لتطال عموم الواقع، وهذه عملية تأخذ أبعاداً وتجليات مذهلة، إنها غزو ثقافي شامل ومتواصل يأتينا عبر مختلف وسائل الاتصال والتكنولوجيا.

تبدأ العملية بتشويه الوعي وتزوير الواقع: فمقاومة الهيمنة والاحتلال تصبح مرادفة للإرهاب، وحماية بعض العادات والتقاليد تصبح خرقاً لحقوق الإنسان، واحترام معتقدات الأمم والجماعات وأديانها يصبح تحريضاً على العنف وحجْراً على الحريَّة. ضمن هذا الإطار تتم عولمة مفاهيم من قبيل: محور الشر، ومن ليس معنا فهو ضدنا، وتصبح المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال إرهاباً.

 

عملية تعميم النموذج الثقافي الأمريكي الرأسمالي وتصديره تتم في كل الميادين وبكل الوسائل.  وضمن هذا الإطار، يأتي مفهوم العولمة الثقافيَّة بصفتها قوة شاملة، وعبره يتم تشييء كل شيء وتسليعه.

وفي المُقدِّمة الإنسان، عملية يجري عبرها تحويل العالم إلى كازينو للمقامرة، فالمرأة ليست عصريَّة إلا إذا انضبطت لمقاييس الجمال السائدة عند المرأة الكاليفورنيّة، والرياضة والألعاب الأوليمبية تتحوَّل إلى صناعة وعمل يدر مليارات الأرباح، ونجاح الفنان مرتبط بمدى قدرته على تقليد الأغاني الأمريكية والرقص الأمريكي، إنّها عملية تعميم مذهلة تدفع نحو الهبوط والانحطاط والضياع في سوق الرأسمال، وتجارة المخدرات، والدعارة، والجنس، وتحويل كل شيء إلى لا شيء، في لحظة واحدة، وتحت حمى مضاربة الاحتكارات وبورصات المال في نيويورك تنهار أسواق قارات بكاملها، آمال الناس وأحلامهم ساحة من ساحات مغامرة رأسمال، ومآسي الأمم وكوارث الطبيعة تتحوَّل إلى ميدان للتجارة والمضاربة.

 

إذاً، نحن في عصر العولمة الأمريكية، بما هي إعادة صياغة الوعي والثقافة والمجتمعات بصورة عميقة ومتسارعة، لتستجيب لشروط الهيمنة الأمريكية في أكثر مظاهرها عنفاً، وضمن إطار هذه العملية، وفي سياقاتها الشاملة، تتفاعل الخصوصيات الثقافيَّة لتجد نفسها في مقاومة رياح عاتية تعصف بكل شيء، وأي ثقافة لا تملك الوعي والقدرة على حماية ذاتها والصمود، فإنّها ستسحق تحت جنازير العولمة التي لا ترحم، والعولمة الإمبريالية المتوحشة تملك من أدوات الفعل والتأثير ما يجعل من المقاومة عملية ضارية في كل المستويات.

فالغزو الثقافي إن جاز التعبير يتحرَّك مستخدماً أدوات مركبة ومعقدة وتحت يافطات براقة وخادعة، إنّه يأتي أحياناً تحت شعار تعزيز الديمقراطيَّة في المجتمعات النامية، أو محاربة التخلف، أو تشجيع التنمية أو تعزيز الثقافة أو حوار الحضارات أو الأديان.

 

إنّه يبني أدواته على شكل مُؤسَّسات اجتماعيَّة ثقافيَّة وتنمويَّة، ويؤسس المنتديات، ويصدر الصّحف، وينشئ الروابط الثقافيَّة، وفق عملية تجري على السطح وفي الأعماق. هكذا يتحوَّل الاقتصاد والمساعدات إلى ثقافة، كما تتحوَّل السياسة إلى بنى اجتماعيَّة، هذه العملية الشاملة والمتداخلة نعيشها أيضا نحنُ الفلسطينيين والعرب، نكتوي بنارها ونتائجها، ونعيش تجلياتها على شكل فوضى وارتباك أحياناً، وتشوهات ثقافيَّة أحياناً أخرى. وعي هذا الواقع بأبعاده يغدو مسألة حيويَّة ولها أولوية مطلقة إذا ما أردنا الصمود وحماية الذات بما هي هوية وطنيَّة أو قوميَّة أو حضاريَّة أو ثقافيَّة، مع الاحتفاظ بأبعادها الإنسانيَّة والتاريخيَّة.

التصدي للغزو والتشويه أو النفي الثقافي تستدعي عملية مقابلة واعية وشاملة تقوم على احترام الذات الثقافيَّة والخصوصية، بما هي نتائج التجربة التاريخيَّة بمركباتها الحضاريَّة والتراثيَّة واللغويَّة، إنّها بمنزلة جوهر الهوية القوميَّة التي تجد ذاتها في إطار التفاعل الإنساني الشامل والاعتراف بالآخر واحترام خصوصيته.

 

في إطار ذلك، وتأسيساً عليه، تصبح عملية التربية مسألة وجودية بالمعنى الثقافي والاجتماعي، إنها عملية إبداع ديناميات التطوُّر وإطلاقها وتحويل المُكوَّن الثقافي إلى قوّة دافعة للصمود، وقوة تملك شروط التفاعل والقدرة على الاستفادة من منجزات العلم وثورة المعلومات لتعزيز الوعي، والتصدي لثقافة الاستلاب والدونية والاغتراب الثقافي والاجتماعي. بهذا المعنى، تكون العملية التربويَّة هي فعل اجتماعي واعٍ شامل يأتي في سياق استراتيجيَّة سياسيَّة وطنيَّة تدرك إمكانات المجتمع والأمة، وتتعامل معها لكونها الاحتياط الاستراتيجي الذهبي الذي لا يحتمل العبث أو التبديد، هذه الرؤيا تستدعي تفاعلاً عميقاً ما بين الثقافة والتربية ومنجزات العلوم، ومن ثمَّ تخطي مأزق الجمود والانحباس الذي تعانيه العملية التربويَّة، إذ لا يمكن الحديث عن إبداع ثقافي مع استمرار تخلف النظام التعليمي، لأنّ غياب الإبداع الثقافي يعني في المحصلة الاستسلام أمام الثقافات الوافدة.

 

غير أنّ الصمود الثقافي ليس معزولاً عن الصمود السياسي الذي يعني في الجوهر حماية حقوق الشعب والأمة ومصالحهما، ومن ثمَّ حماية ثرواتها البشريَّة ومصالحها الاقتصاديَّة، هنا يدخل المجتمع في حالة اشتباك إيجابي شامل مع كل تجليات الضغط أو التأثير الثقافي، وتصبح الثقافة قوة فاعلة في تحديد الخيارات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة للمجتمع، بما ينسجم مع خصوصيات هذا المجتمع وتجربته الحضاريَّة والتاريخيَّة، نعم إننا أمام عملية اشتباك شامل إيجابي يطال اللغة، والتراث، والتربية، والفنون، والسلوك الفردي والجمعي، وبهذا يدخل المجتمع في ديناميكية النهوض، ليعيد اكتشاف ذاته وكرامته وخصوصيته، ويحول ذلك إلى فعل بناء وتفاعل مع المحيط الكوني، دون أن يسقط في متاهة الضياع والاستلاب الثقافي، وبهذا المعنى تصبح الممارسة الثقافيَّة جزءاً من ممارسة ثقافيَّة كونية أشمل في مواجهة العولمة الثقافيَّة المتوحشة، التي تسعى لشطب الثقافات أو تفريغها من غناها الذاتي ولونها، وتحويلها إلى لون رمادي باهت، ويبدو الحديث هنا وكأنه يحمل أو يعكس نزعة إرادية، فقد يقول البعض: وهل في مقدورنا نحن الفقراء، نحن البسطاء، نحن الذين نعيش على هامش الفعل، أن نصمد أمام هذا الجبروت وهذا الهجوم الشامل؟

نعم، في مقدورنا إذا ما وضعنا أنفسنا في سياق الصراع والتناقضات الكونية، حيث مليارات البشر، بما في ذلك مئات الملايين في الدول الإمبريالية نفسها، تعاني ويلات العولمة المتوحشة وآثارها، إننا جزء من مشروع إنساني بديل، المهم أن نعيد الالتفات إلى ذاتنا لقراءة هذه الذات بصورة أعمق، وإدراك عناصر القوة الروحيَّة والثقافيَّة، وتعلم استخدامها بصورة عقلانيَّة واعية تعيد إنتاج القوة الثقافيَّة من جديد، إذ إن أخطر التشوهات هي التي تجعل من العجز واليأس والإحباط مُكوَّناً طبيعياً، ومن ثمَّ تسلبه القدرة على المحاولة والمقاومة.

 

إذن فالتربية بما هي وعي وفعل، تغدو حجر زاوية لبناء أدوات الصمود وشروطه من جانب، والنهوض من جانب آخر، هذا يشترط التعامل والتربية كعملية شاملة تعيد بناء وعي الذات الوطنيَّة، أو القوميَّة، أو الفرديَّة في سياق سياسي ثقافي سلوكي، يحافظ على الخصوصية، وينفتح على الإنسانيَّة بمُكوَّناتها العلميَّة والثقافيَّة بصورة متفاعلة، تدرك من أين تبدأ والى أين تسير، ولكي تغدو هذه العملية بشكل منظم، يجب أن تتحوَّل إلى استراتيجية وفعل استراتيجي، يشمل ذلك: الأسرة، والمدرسة، ونظام التعليم، والسياسات العامة.

أمّا ترك العملية رهناً بالعفوية والتمردات الفرديَّة، فإنه يقودها إلى التخبط والضياع، ويدفعها إلى دوامة الانحراف والتشوه أو الانغلاق والنكوص السلبي.

إذن، التربية هي أداة تغيير بدونها يستحيل الحديث عن بناء الإنسان من جديد، بكونه الحامل فرداً وجماعة لقيم الاحترام للانتماء الوطني أو القومي أو العقائدي وسلوكياته بصورة جدلية مبدعة وخلاقة.

إنّنا ونحن نتحدث عن التربية، من منظور هذا الفهم، نطلق دينامية شاملة تقوم على احترام الذات الثقافيَّة والحضاريَّة من جانب، واحترام ذات الآخرين وثقافتهم من جانب آخر، وفي الوقت ذاته صيانة هذه الذات من الاستلاب، والشعور بالدونية، وتمليكها شروط الثقة بعيداً عن التعصب وتضخيم الأنا بصورة مرضيَّة، بما يغذي الممارسة العنصرية أو التطرف المقيت، أو الحكم على الآخر ضمن مقولة الصحيح المطلق أو الخطأ المطلق.

 

إنّ أخطر ما نتعرض له بوصفنا شعباً وأمة في ظل العولمة المتوحشة هو الإدغام الكامل في ثقافة تلك العولمة، أو الانعزال المطلق عن العالم، ويصبح الجميع بالنسبة إلينا أعداء، بما في ذلك الثقافات والأمم والشعوب والأديان المختلفة.

 

أمّا البديل فهو رؤية ذاتنا كجزء فاعل من التاريخ الإنساني، وجزء من جبهة المقاومة الإنسانيَّة الكونية التي تقف متصدية للعولمة الأمريكية المتوحشة وترجماتها السياسيَّة والثقافيَّة والسلوكيَّة.

 

نصار إبراهيم كاتب فلسطيني
مركز المعلومات البديلة