العمر العقلي والقبول في المدارس

محمود طافش

لا يملك الباحث التربوي إلا أن يتوقف طويلاً عند الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء والذي فحواه أنّ طفلة هندية في السنة الثامنة من عمرها الزمني قد اجتازت السنة الدراسيَّة العاشرة محطمة بذلك الرقم القياسي العالمي في القدرة على التعلُّم. وهذا الخبر ليس أسطورة ولا ضرباً من الخيال وإنّما هو حقيقة واقعة، وليست الطفلة (دايا شارما) هي وحيدة عصرها وإنما هناك الكثيرات والكثيرون غيرها من المبدعين الذين حقَّقوا إنجازات كالأساطير.

 



والفكر التربوي لا يرفض هذه الحقيقة وإنّما يباركها، فهناك الملايين من الأطفال الذين تسبق أعمارهم العقليَّة أعمارهم الزمنيَّة، ومنهم من أسعفه الحظ فوجدوا من تعهَّدهم بالرعاية، ومنهم من وقع بين براثن الجهل والتخلُّف والإحباط. فتحت أي الفرقتين ينضوي أطفالنا المبدعون في عالمنا العربي ذي الأمجاد التليدة والحضارة التي كانت عريقة؟

إنّ حكوماتنا العربية، التي توصف دائماً بأنها رشيدة، ما زالت تداري خيبتها وإخفاقها في إيجاد فرص عمل للخريجين من أبنائها، ليتمكَّنوا من المساهمة في بناء ونهضة أوطانهم بتعطيل تقدمهم على مقاعد المدرسة اثنتي عشرة سنة كاملة، ولن يتمكَّن المُتعلِّم العربي، في كثير من الحالات، من الحصول على الدرجة الجامعيَّة الأولى إن استطاع أن يحصل عليها إلا بعد أن يستنفد جميع مدخرات أبيه، وأمّا الشهادات العليا فإنهُ غالباً لن يحصل عليها في وطننا العريق إلا بعد أن يشيب شعر رأسه أو يصاب بالضغط والسكري وغيرهما من الأمراض.

إنّ العمر العقلي هو المعيار الحقيقي للقبول في المدارس وليس العمر الزمني، وإنّ كثرة الخريجين مظهر رائع من مظاهر التقدُّم والحضارة والازدهار، وليس عبئاً على أكتاف الحكومات التي تدور في حلقات مُفرَغة.

إنّ القوانين والتعليمات التربويَّة العربية المُتعلِّقة بقبول الأطفال ما زالت تُحدِّد سن القبول في مدارسها بست سنوات زمنيَّة في معظم المدارس، دون الالتفات إلى قدرات الطفل العقليَّة. وبعض الأقطار العربية سمحت بقبول أبناء مواطنيها دون هذه السن بأربعة أشهر، وحرمت الأطفال الآخرين من أبناء العرب الوافدين إليها من الدخول في مدارسها، ولو كان عمرهم الزمني يقل بيوم واحد عن ست السنوات.

ويدرك العديد من أولياء أمور الأطفال المُتميِّزين أنّ اعتماد العمر الزمني للأطفال دون الأخذ في الحسبان العمر العقلي خطأ كبير. إذ إنّ الأطفال يتعلَّمون بعقولهم لا بأعمارهم. وإنّ كثيراً من الأطفال المسجلين في المدارس العامة، والذين أتاحت لهم أعمارهم الزمنيَّة الجلوس على مقاعد الدراسة، ليسوا مؤهلين من الناحية العملية للاستقرار فوق تلك المقاعد، غير أنّ أولياء الأمور هؤلاء لا يدرون كيف يعبرون عن عدم قبولهم للواقع تعبيراً علمياً معقولاً، فلا يجدون أمامهم إلا أن يصمتوا حائرين.

إنّ قراراً تمخضت عنه تلك التعليمات المشار إليها يعني أنّ كل أطفال العرب يكونون على مستوى واحد من الذكاء في سن القبول الزمني المُحدَّد. غير أنّ هذا الطرح لا أساس له من الصحة إذ إِنّ (50%) فقط من الأطفال متوسطون و(25%) قدرتهم التعليميَّة ممتازة و(25%) قدرتهم التعليميَّة ضعيفة، وهذه الحقيقة يمكن توضيحها حسب مقياس (وكسلر) بالنسب الآتية (1:2:1) بمعنى أننا لو أخذنا مائة طفل من المرشحين للقبول في الصف الأول الابتدائي فإننا نجد (25) طفلاً، دون المستوى العادي و(25) آخرين فوق المستوى العادي، وهذا يعني أن نصف الأطفال فقط عمرهم العقلي يساوي عمرهم الزمني، بتعبير أوضح، هناك أطفال عمرهم الزمني ست سنوات بينما عمرهم العقلي خمس سنوات أو دون ذلك. وهناك أطفال عمرهم الزمني خمس سنوات بينما عمرهم العقلي ست سنوات أو أعلى من ذلك. والأطفال الذين يقل عمرهم العقلي عن عمرهم الزمني لا يكونون مؤهلين أو قادرين على متابعة البرامج المُعدَّة للأطفال العاديين.

وقياساً على اختبار (وكسلر) فإنّ (25%) من أطفالنا الذي يقبلون في مدارسنا العامة غير قابلين للتعلُّم، أو أنّ قابليتهم دون الحد المطلوب، كذلك فإنّ (25%) من أطفالنا المُتميِّزين غير مسموح لهم بالاستفادة المُبكِّرة من الخدمات التعليميَّة المجانية.

إنّ الأطفال لا ينضجون عقلياً في وقت واحد، والأطفال الذين أجاز لهم عمرهم الزمني دخول المدرسة لابدّ لهم من أن يخفقوا إذا كان عمرهم العقلي دون عمرهم الزمني، وإذا ما نقلوا إلى السنة الثانية فإنهم سيزدادون إخفاقاً، لأنّ العلم الذي يؤخذ لاحقاً يُبنى على العلم الذي أُخذ سابقاً، ومن ثمَّ سينصرفون عن متابعة مُعلِّميهم إلى العبث والشغب، فإن تكرر الإخفاق مُني الطفل بالإحباط، وقد يؤدي به ذلك إلى الانحراف في السلوك، وذلك لكي يلفت إليه أنظار أولئك الذين عجز عن لفت أنظارهم إليه باجتهاده وتحصيله.

إنّ الحل الذي يفرض نفسه على هذه المشكلة هو اعتماد العمر العقلي بدلاً من العمر الزمني معياراً للقبول في المدراس، والعمر العقلي يمكن تحديده بوساطة تقويم الاستعداد واختبارات الذكاء، وهذه تقوم على المهارات التي لها صلة وطيدة بالعملية التربويَّة، فالطفل لكي يتعلَّم يجب أن يكون قادراً على التمييز بين الأشكال والأصوات المختلفة.

إنّ التربية لا تعمد لقياس ذكاء الأطفال من أجل الأغراض العلميَّة فقط، وإنّما أيضاً من أجل أغراض عملية تطبيقيَّة، فالمُعلِّم لا يستطيع أن يتعامل مع ثلاثة مستويات مختلفة من الأطفال في آنٍ واحد. والمنهاج يوضع ليناسب غالبية التلاميذ، غير أن الطفل الضعيف غير قابل للتعلُّم بالطريقة الاعتيادية، ومن ثم سيصبح هدفاً سهلاً للسخرية من قِبَلِ زملائه. وكذلك فإنّ الطفل المُتفوِّق سيتغير وضعه إذا لاحظ أن المُعلِّم يهتم بالطالب الضعيف دونه، ومن هذا المنطلق لا يجوز لنا في أي حال من الأحوال أن نضع الطفل المُتفوِّق جنباً إلى جنب مع الطفل الضعيف.

والسؤال الآن، لماذا نتحدث عن الفروق الفرديَّة ولا نراعيها؟ إنّ تشعيب الأطفال حسب أعمارهم العقليَّة قد أدى في الدول المُتقدِّمة إلى أفضل النتائج، ذلك لأنه مكّن المربين من تقديم الغذاء التعليمي المناسب للأطفال حسب استعداداتهم العقليَّة. وإنّ القائمين على التربية والتعليم في عالمنا العربي يحاربون مبدأ التصنيف، وفي الوقت نفسه يصنفون على أساس غير سليم، أي على أساس من العمر الزمني، وهو أساس ليس له كبير علاقة بالقدرة على التعلُّم، فالأطفال يتعلَّمون بعقولهم لا بأعمارهم.

إنّ اختبارات الاستعداد معروفة في حقل التربية والتعليم منذ أزمان، غير أنّه لا وجود فاعلٌ لها في مجتمعنا العربي لأن في وسع جامعاتنا "وهي كثيرة بحمد الله" أن تبنى لنا مقاييس استعداد لتحديد العمر العقلي للأطفال، لكنّ القائمين على العملية التربويَّة غير جادين في تحديث الوسائل التعليميَّة. إنهم يريدون من أساتذة القياس في الجامعات أن يبنوا لهم مقاييس استعداد بالسخرة، إنهم ينفقون أموالاً طائلة على الشؤون التعليميَّة وعلى الخبراء الأجانب الذين يستقدمونهم من الخارج، ويبخلون على العلماء بما يحفزهم إلى العمل لبناء اختبارات ذكاء لقياس درجة الاستعداد عند الأطفال.

إنّ اعتماد العمر الزمني للأطفال مقياساً للقبول في المدارس أسلوب غير تربوي وغير سليم، والمعيار الصحيح للقبول هو العمر العقلي الذي يمكن تحديده بوساطة اختبارات قياس الاستعداد، وهذه يمكن بناؤها من قِبَلِ علمائنا في جامعاتنا. ولا شك في أنهم سيرحبون بأي اقتراح يهدف إلى تحسين مستوى التعليم في بلادهم.

 

العمر العقلي والقبول في المدارس-محود طافش