العقلانيَّة النقديَّة ذاتيَّة الأساس

هذه العقلانيَّة عمليَّة فاعليَّة، إرادية، ومتأثرة في الوقت نفسه بالالتزامات الاجتماعيَّة وضرورات الزمان، ومرتكزٌ مؤلفٌ من ثلاثة عناصر: الدليل العقلي، ومقوِّم الدليل (العاقل)، والقانع بالدليل.



أولى العقلانيَّة الإداريَّة هي: العقلانيَّة النقديَّة ذاتيَّة الأساس:

وتجرى فاعليَّة هذه العقلانيَّة من خلال التعامل مع هذه العناصر الثلاثة، في ذات الاستقلال والوحدة.

وطبقاً للدراسات التي قام بها "جان بياجيه" يمرّ النمو الأخلاقي منذ الولادة وحتى نهاية الفتوّة، بثلاث مراحل مُتميِّزة:

  • اللا انتماء والتي تعني عدم وجود أي مبدأ وقانون أخلاقي.
  • التبعية، وهي المرحلة التي يقلد فيها الطفل القوانين الأخلاقيَّة تقليداً أعمى، وعلى أساس القسر أو التقليد أو التلقين.
  • مرحلة الاستقلال والتي تقترن مع بداية مرحلة الفتوة. والمراد بالاستقلال في الأخلاق مرور القيم والمعايير الأخلاقيَّة من مسار العقل ذاتي الأساس، وتأييدها بشكلٍ حُر وعلى أساسٍ من الوعي.

 

من أجل تنمية العقلانيَّة النقديَّة ذاتيَّة الأساس، لابُدّ من توفير ظروف الخطأ والاستخدام الإيجابي للأخطاء، لأنّ العقل النقدي الفعَّال يبلغ مرحلة النمو والنضج، حينما يُتاح إمكان الخطأ وإصلاحه بوساطة الـ "عامل". فالثقة بالنفس، والاستقلال، والأمن النفسي، والإيمان الإيجابي بالذات، وكذلك ظهور الفكر التقدُّمي، تعدُّ من بين مميزات الأفراد الذين لديهم الاستعداد لبلوغ العقل النقدي.

العناصر الأساسيَّة التي يتألّف منها العقل ذاتي الأساس هي الذكاء المنطقي والهندسي، وكذلك العقل الشهودي والإشراقي، إضافةً إلى التعامل بين المعرفة العلميَّة والمعرفة الشهودية. وأولئك الذين يحصلون على هذه القوة الفكريَّة والإلهاميّة العظيمة، سيتحقَّق لهم بلا شك كلٌ من الاجتهاد العقلي والبصيرة القلبية.

إذاً فضلاً عن توافر عناصر "الدليل" و"العامل" و"المشرف" في العقلانيَّة النقديَّة، لابدّ من وجود عمليَّة التغيير الداخلي. وإذا ما تحقق ذلك فسيتم إنقاذ العقلانيَّة من السقوط في هوّة الأنانية والاستبداد بالرأي، ونقلها إلى مرحلة التعامل مع الآخرين والتفاهم معهم.

من جانبٍ آخر، يلجأ بعض الفلاسفة إلى طرح عمليَّة العقلانيَّة في قالب نظريَّة "مثلث العقلانيَّة" التي تقول بثلاث مراحل العقلانيَّة هي: الواقعيَّة والمنهجيَّة، والتنظير.
فينبري العقل في المرحلة الأولى لإدراك الواقع وفهم الحقائق العينية، ثم ينطلق في المرحلة الثانية إلى التوصل إلى الحقائق الما وراء عينية، ثم يمارس في المرحلة الثالثة عمليَّة التنظير وأيضاً المفاهيم الكلية وشبه الكلية.

العقلانيَّة التنظيرية تقوم عن طريق الاستناد إلى الدليل، والعامل، والمشرفين من أهل الفن، بالعمل في ساحتي النظر والعمل، في ظل رؤيتها الشاملة، لنشر أشعة نور العلم والفكر، وتضاعف من قدرتها في هذا المجال. ووفق هذه العمليَّة يصبح الفكر الإنساني فكراً عقلانياً، والسلوك الإنساني سلوكاً عقلانياً.

من خلال جمع عناصر "الدليل العقلي"، و"العامل العاقل"، و"تأييد الناظرين من أهل الفن"، ينبغي التنظير في شتّى العلوم بحيث يليق بجو التعامل الفكري الاتصاف بالعقلانيَّة. لكنّ العقلانيَّة التنويرية في حاجةٍ إلى القطيعة والضمنية. ويمكن أن تكون نسبيَّة العقلانيَّة المنطقيَّة آخر طبقة من طبقات فهم المُفكِّرين لواقعيات الوجود، على الرغم من أنها بالتأكيد ليست أكمل وآخر مراحل الفهم والإدراك.

لقد أعلن القرآن الكريم أنّ العقلانيَّة هي المعيار في الرفض أو القبول، حتى في الرد على أولئك الذين يعدُّون العصبية والانسداد إلى التُّراث الثقافي الذي كان عليه آباؤهم قيمة من القيم: "أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"، "ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون". ومتى هذا أنّ العقل والعلم يؤلفان الأساس لأيّ لونٍ من ألوان النّقد أو الانتقاد، لأنّهما يمثلان المحفز أو الدافع إلى القبول، بينما لا يمثل الشيوع أو العرف والقدم، أيَّة قيمةٍ عقليَّة أو علميَّة.

د. شافع النادي