التفكير الناقد وأهميته للعملية الإبداعيِّة

محمود طافش

تربي المدرسة الحرة المُتعلِّم على الانفتاح العقلي، وعلى التفكير الناقد لتحرره من التبعيَّة العمياء للآخرين وللأفكار الموروثة، لذلك فهي تدربه على أساليب استخدام العقل والمنطق دون استعجال في الكشف عن الحقائق. ولا يقتصر التفكير الناقد على نقد ظواهر الأشياء، وإنما يتعداها إلى التفكير في العلل والمسببات، وطرح التساؤلات حول القضايا المثارة التي تسبب الأزمات، وذلك لكي يكون للخبرات التي يحصل عليها المُتعلِّمون معنى وقيمة وأثر. فالتفكير بمنطق يقود المُفكِّر إلى كشف النقاب عن وجه الحقيقة، وإلى اتخاذ قرارات صائبة.

 



ويشجع المُعلِّمون والآباء المستنيرون الأطفال على توظيف العقل، وعلى حسن الإصغاء للآخرين، واحترام آرائهم ومحاكمتها بالمنطق الواضح والحجة البيّنة. وهم يعلمونهم متى يستمعون، وكيف يسألون ويجيبون، أو يدلون بآرائهم من منطلق أن التفكير المنطقي والحوار السليم يقودان إلى النجاح، وأن الخطأ في التفكير يقود إلى خطأ في الاستنتاج.

ولكي ينجح الآباء والمُعلِّمون في مهمتهم، فإن عليهم أن يعوّدوا الأطفال تقبل النقد، لأنه ليس كل ما يفكرون فيه سليم، وكل إنسان معرض للخطأ في القول وفي الفعل، والبحث عن الحقيقة هو الطريق المؤدي إلى النجاح، والوصول إليها يتطلَّب استخدام الأساليب العلميَّة في التفكير بمهارة.

 

مفهومه

تفيد مادة (نقد) في اللغة العربية: اختبار الشيء لتمييز جيده من رديئه. وبناء عليه فإن تدريب المُتعلِّمين على التفكير الناقد يكون لإكسابهم مهارة التمييز بين الصواب والخطأ وبين الصحيح والزائف، فيتمكَّنون بذلك من تقويم مسيرتهم باتجاه إتقان العمل والإبداع فيه.

وفي الاصطلاح أشار الأدب التربوي إلى مجموعة من التعريفات للتفكير الناقد أقتبس منها ما يأتي:

التفكير الناقد هو: "فحص وتقويم الحلول المعروضة &
(McCann1985 MooreK, McCann)

التفكير الناقد هو: "تفكير تأملي معقول يركز على اتخاذ القرار فيما يفكر فيه أو يتم أداؤه"
((Ennis,1985.

أو هو عملية استخدام قواعد الاستدلال المنطقي، وتجنب الأخطاء الشائعة في الحكم.
(عبد السلام ورفيقه، 1982).

 

والتفكير الناقد هو التفكير: "الذي يعتمد على التحليل والفرز والاختيار والاختبار لما لدى الفرد من معلومات بهدف التمييز بين الأفكار السليمة والأفكار الخاطئة" (منصور، 1986).

وبناءً على ما سبق، فإن التفكير الناقد يهدف إلى التوصُّل إلى الحقيقة بعد نفي الشك عنها عن طريق دراسة الأدلة المنطقية والشواهد المتوافرة وتمحيصها.

ويعد التفكير الناقد من مُتطلَّبات القدرة على التفكير الإبداعي، إذ يوظفه الباحث الساعي إلى الإبداع للمفاضلة بين الحلول التي يتوصل إليها من أجل اختيار أصلحها وأكثرها ملاءمة لطبيعة المشكلة المطروحة. والتفكير الناقد يتحدى أفكار الآخرين وأعمالهم، ويقومها بالبراهين والشواهد والأدلة العقليَّة دون تحيّز، ويرفض التبعيَّة للآخرين دون تفكير.

 

أهمية ممارسة التفكير الناقد

تكمن أهمية التفكير الناقد في أنه:

  1. يساعد المُتعلِّم على قبول النقد، وعلى الاستفادة من ملاحظات الآخرين فيما يطرحه من أفكار.
  2. يمكن المُتعلِّم من استيعاب آراء الآخرين، ويزوده بالقدرة على تمحيصها والاستفادة منها.
  3. العدل والدقة في إصدار الأحكام الموضوعية على آراء الآخرين ومعتقداتهم.

  

ومن العوامل التي تساعد المُتعلِّمين على التفكير الناقد:

  1. تدريبهم على أساليب التفكير المنطقي.
  2. وجود القدوة الصالحة التي تدرب المُتعلِّم على خطوات الوصول إلى الحقيقة الغائبة، وفهم الأسباب بحوار هادئ يعتمد على الأدلة، وعلى احترام الرأي والرأي الآخر دون تحيز وفي منأى عن العواطف الجياشة والانفعالات الحادة.
  3. السماح لهم بتحدي الأفكار المطروحة بحريَّة، وتقبل النقد الموجّه إلى أفكارهم برحابة صدر، والدفاع عن وجهات نظرهم بالحجج مما يكسبهم الثقة بأنفسهم.
  4. تربيتهم على "أن الإنسان خطّاء"، وعلى أن الشك هو أول خطوات الوصول إلى الصواب، يلي ذلك البحث الجاد والتجريب العلمي.

 

مهارات التفكير الناقد

توصل روبرت إنس (Robert Ennis 1985) إلى تحديد اثنتي عشرة مهارة تمكن المُتعلِّم من ممارسة التفكير الناقد، وهذه المهارات هي، (الحارثي، 2001):

  • القدرة على الإحاطة بجوانب القضية المطروحة وفهم محتواها.
  • القدرة على توضيح الغموض في الأدلة.
  • القدرة على اختبار النتائج التي يتم التوصُّل إليها.
  • القدرة على اكتشاف التناقض في العبارات.
  • القدرة على تحديد القضية بوضوح.
  • القدرة على فهم أن القضية تستند إلى قاعدة سليمة.
  • القدرة على الحكم إذا ما كانت المشاهدة موثوقاً بها.
  • القدرة على تسويغ النتيجة التي يتم التوصُّل إليها.
  • القدرة على الحكم فيما إذا كانت القضية معرفة.
  • القدرة على الحكم فيما إذا كان الشيء مفترضاً.
  • القدرة على تحديد التعريف بدقة.
  • القدرة على صياغة العبارة بصورة مقبولة.

 

كذلك توصل نيدلر (Kneedler) إلى صياغة اثنتي عشرة مهارة لتنمية التفكير الناقد لدى المُتعلِّمين، وهذه القدرات هي، (قطامي، 1990):

  • القدرة على تحديد المشكلات والمسائل المركزيَّة، وهذا جزء من الأجزاء الرئيسة للبرهان والدليل.
  • القدرة على تمييز أوجه الشبه من أوجه الاختلاف، وهذا يسهم في القدرة على تحديد الأجزاء المميزة، ووضع المعلومات في تصنيفات للأغراض المختلفة.
  • القدرة على تحديد المعلومات المُتعلِّقة بالموضوع، والتي لها قدرة على إجراء موازنات بين الأمور التي يمكن إثباتها أو التحقُّق منها، وتمييز المعلومات الأساسيَّة من المعلومات الأقل ارتباطا.
  • القدرة على صياغة الأسئلة التي تسهم في فهم أعمق للمشكلة.
  • القدرة على تقديم معيار للحكم على نوعيَّة الملاحظات والاستنتاجات.
  • القدرة على تحديد إذا ما كانت العبارات أو الرموز الموجودة مرتبطة معاً ومع السياق العام.
  • القدرة على تحقيق القضايا البديهية والتي لم تظهر بصراحة في البرهان والدليل.
  • القدرة على التمييز بين الصيغ المُتكرِّرة.
  • القدرة على تحديد موثوقية المصادر.
  • القدرة على تمييز الاتجاهات والتصوُّرات المختلفة لوضع معين.
  • القدرة على تحديد قدرة البيانات وكفايتها ونوعيتها لمعالجة الموضوع.
  • القدرة على توقع النتائج الممكنة أو المحتملة من حدث أو مجموعة أحداث.

 

أما باير (Beyer) فقد حدد عشر مهارات هي، (جروان، 2002):

  • التمييز بين الحقائق التي يمكن إثباتها أو التحقُّق من صحتها وبين الادعاءات أو المزاعم الذاتيَّة أو القيميَّة.
  • التمييز بين المعلومات والادعاءات والأسباب ذات العلاقة بالموضوع، وتلك التي تقحم عليه ولا ترتبط به.
  • تحديد مصداقيَّة مصدر المعلومات.
  • تحديد الدقة الحقيقيَّة للخبر أو الرواية.
  • التعرُّف على الادعاءات أو البراهين والحجج الغامضة.
  • التعرُّف على الافتراضات غير الظاهرة أو المتضمنة في النص.
  • تحري التحيّز أو التحامل.
  • التعرُّف على المغالطات المنطقية.
  • التعرُّف على أوجه التناقض أو عدم الاتساق في مسار عملية الاستدلال من المقدمات أو الوقائع.
  • تحديد درجة قوة البرهان أو الادعاء.

 

ورأى ريتشارد باول (Richard Paul) أن التفكير الناقد يستند إلى حزمة من القواعد الرئيسة التي يستطيع المُعلِّم أن يكيّفها مع ظروف البيئة التي يعمل فيها. وأشار إلى أن هناك ثلاث استراتيجيات للتفكير الناقد هي: استراتيجيات عاطفية، واستراتيجيات القدرة الكبيرة، واستراتيجيات القدرات الصغيرة، وهذه الاستراتيجيات الثلاث متداخلة ومتكاملة فيما بينها. ويرى أن المُفكِّر الذي تتطلع التربية إلى إيجاده هو المُفكِّر الناقد والمبدع، لأنه يتمتع بمهارات تفكير سامية، إضافة إلى أن ممارساته تتسم بالعدل. وهذا المُفكِّر تربى بالقدوة الحسنة على الاستقلاليَّة، وعلى التبصر والتعمق في المهارات الميكانيكيَّة، وعلى احترام آراء الآخرين.

ويُقرِّر بول (Paul) أن للتفكير هدفاً سامياً، كما أنّ لكل عمل ينهض به الإنسان هدفاً، وأنه من المفيد له تحديد هذه الأهداف بدقة، والعمل على تحقيقها بوسائل مشروعة دون ظلم، لذلك فإن المُفكِّر الناقد يتمتع بقدرة عالية على التقويم، تقويم الأفكار والأفعال والنتائج التي تترتَّب عليها.

"وعندما يتحوَّل الطفل إلى مُفكِّر ناقد سوف يعرف أن التعبير عن إعجابه بالشيء لا يكفي للحكم على صحة ذلك الشيء. ولا بد من معرفة الغرض من التقويم، ولا بد من معرفة معايير التقويم، ولا بد كذلك من استخدام تلك المعايير في عملية التقويم" (الحارثي، 2001).

ويضيف الحارثي قائلاً: "يجب تمرين الطلاب على تقويم الأفكار والأشياء والأحداث من خلال سلسلة مفتوحة من التساؤلات. ولا يمكن للأطفال أن يصبحوا مُفكِّرين ناقدين دون ممارسة عملية النقد، وإصدار الأحكام في ضوء معايير واضحة".

 

ويذكر الحارثي ست استراتيجيات متكاملة للتفكير الناقد هي:

  • معرفة الفكرة أو الشيء أو الحدث أو الفعل وتحديد معناه.
  • التعرُّف على الأسباب والمسببات.
  • معرفة الأغراض أو الأهداف التي يرمي إليها.
  • القدرة على التقويم من خلال معرفة المعايير والتزام تطبيقها.
  • معرفة المترتبات المستقبليَّة والتتابعات التي تبنى على ذلك الشيء أو الفكرة أو الحدث.

 

كيف ننمي التفكير الناقد؟

والسؤال الآن هو: كيف يمكن للمُتعلِّم أن يتسلح بمهارات التفكير الناقد؟

أورد يوسف قطامي، (1990) سبع خطوات تمكن المُتعلِّم من الأخذ بناصية التفكير الناقد وهذه الخطوات هي:

  • جمع سلسلة من الدراسات والأبحاث والمعلومات والوقائع المتصلة بموضوع الدراسة.
  • استعراض الآراء المختلفة المتصلة بالموضوع.
  • مناقشة الآراء المختلفة لتمييز الصحيح منها من غير الصحيح.
  • تمييز نواحي القوة من نواحي الضعف في الآراء المتعارضة.
  • تقويم الآراء بطريقة موضوعية بعيدة عن التحيّز والذاتيَّة.
  • البرهنة وتقديم الحجة على صحة الرأي، أو الحكم الذي تتم الموافقة عليه.
  • الرجوع إلى مزيد من المعلومات إذا ما استدعى البرهان ذلك.

 

وهناك مجموعة من الأدوات التي يوظفها المُعلِّمون المبدعون لتنمية القدرة على التفكير الناقد لدى تلاميذهم، من أبرزها طرح الأسئلة السابرة المنوعة التي تثير التفكير، وإعطاء الأطفال وقتاً كافياً للتفكير في الإجابة عنها. وفي هذه الحالة ننصح بأن تكون أذنا المُعلِّم مع الطفل الذي يجيب، وعيناه تراقب ذلك الذي قد تسول له نفسه إثارة التشويش، ولا يتعجل بنقل السؤال إلى طالب آخر، لأن فترة الصمت التي تعقب إلقاء السؤال هي التي تعمل على تنشيط تفكير الطفل المقصود بالسؤال، وكذلك الطلاب المتابعين للتواصل. ثم تشجيع الأطفال على طرح الأسئلة السابرة المنوعة، وحفزهم إلى ذلك بتوجيههم إلى توظيف مراجع مُحدَّدة واستخدام تقنيات مثيرة للانتباه وحب الاستطلاع.

 

مميزات المُتعلِّم الناقد:

يمتاز المُتعلِّم ذو الحس الناقد من غيره من عباد الله بمجموعة من السمات، أشار إليها عدد من الخبراء وعلماء النفس من أبرزهم الباحثة التربويَّة هارندك (Harendek. A 1976) التي أوردت العديد من الأمثلة التي تكشف عن صفات الشخص الناقد، ومن هذه الصفات:

  • يتجنب الأخطاء الشائعة ولا يبني حكماً عليها.
  • يستند على مصادر علميَّة موثوقة في نقده.
  • يفصل بين العاطفة والمنطق.
  • مرن لا يتصلب في موقفه إذا توافرت له قرائن تضعفه.
  • يدرس القضية المطروحة دراسة وافية بخطوات مُنظَّمة، ولا يجادل في شيء لا يعرفه.
  • يؤمن باختلاف وجهات النظر حول القضية المطروحة، ويضعها جميعها في الحسبان.
  • يهتم بالأفكار الجديدة وينفتح عليها.
  • لا يخجل من السؤال عن شيء لا يعرفه.
  • يعمل على تنويع وتوسيع ثقافته.

 

ويمتاز التفكير الناقد بأنه تفكير علمي موضوعي متحرر من أثري الهالة والثورنة، ويحتكم إلى العلم، ويستند إلى قواعد ثابتة.

 

خطوات تعلُّم التفكير الناقد

  1. إتقان المهارات الأوليَّة التمهيدية الضروريَّة ومن أبرزها:
    • القدرة على معرفة معاني المفردات ومرادفاتها وأضدادها وسائر تصريفاتها.
    • القدرة على معرفة قواعد اللغة وضروراتها.
    • القدرة على معرفة كيفيَّة التفكير باستقلاليَّة وحياديَّة.

 

  1. إتقان المهارات الأساسيَّة اللازمة لممارسة العملية النقديَّة مثل:
    • القدرة على معرفة أهداف الأعمال التي يقوم بها بوضوح.
    • معرفة مختلف الأساليب والطرائق والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق الهدف واختيار أفضلها.
    • القدرة على تعليل وفهم أسباب القيام بالعمل أو النشاط.
    • القدرة على تقويم الأعمال المنجزة بموضوعية وبمعايير مطوّرة.
    • القدرة على الإحاطة بالمعايير التي يوظفها الآخرون في تقويم أعمال مشابهة واستخدام أفضلها وأكثرها دقة.
    • القدرة على طرح الأسئلة السابرة ذات النهايات المفتوحة.
    • القدرة على الممارسة العملية للنقد البناء.


فإذا استطاعت المدرسة تحقيق هذه الأهداف، وتدريب المنتسبين إليها على هذه المهارات، فإنها تكون بذلك قد وضعتهم على بوابة العمل الإبداعي المنشود.

 

التفكير الناقد وأهميته للعملية الإبداعيِّة