التعليم الإلكتروني......نعم...ولكن

قال ابن الجوزي: "صحبت علماء كثيرين، فكان الأنفع منهم لي العامل بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه".
هذا القول الحكيم لابن الجوزي يدلنا على قاعدة ذهبية تخص العالم والمُتعلِّم، وهي أن العلم ليس مجرد معلومات يتلقنها المرء فيفهمها ويحفظها وكفى، لأنّه إن فعل ذلك كان العلم جسداً بلا روح، وما لم تكن المعلومات ممزوجةً بروح العالم وأخلاقه وطريقته، فلا داعي لمجالسة العلماء، وتكبد عناء السعي إليهم وتمضية الوقت بين أيديهم، وثني الركب في مجالسهم، ومن يطالع تراجم العلماء من أمتنا، يجد فيها عبارة تتكرر كثيراً عند الكلام عن شيوخ وأساتذة كل منهم، مثل "قرأ كتاب كذا على شيخه فلان"، ولو كان العلم مجرد جمع معلومات، لقرأ الكتاب بنفسه.



ولكن قراءته على الشيخ لها فائدتان جليلتان، الأولى علميَّة، وهي أن يشرح له الشيخ ما استغلق من المعاني وأن يضيف ما يحتاجه كل طالب حسب ما يرى الشيخ من حاله، والثانية وهي الأهم فائدة سلوكيَّة، وهي أنَّ العلم لا يرسخ في نفس المُتعلِّم مالم يشاهد أمامه المثال والقدوة الحسنة، فكم من موقف وقفه عالم كان أجدى وأنفع من الكتب والأسفار، ولو كانت وظيفة المُعلِّم التلقين وحسب، لاستغنى الناس عن المُعلِّمين والشيوخ، ولكان لهم في الكتب كفاية، ألم تر أن الخلفاء العباسيين مثلاً، كانوا يختارون لأبنائهم خيرة المُعلِّمين والمؤدبين، مع أن مكتبة بغداد كانت تحتوي علوم الدنيا كلها، وعندما سألوا الدكتور (أحمد زويل) عن سبب تفوقه ونبوغه، قال إن من أهم أسباب ذلك هو الأساتذة الذين درسوه في الجامعة، ليس لعلمهم الواسع فقط، بل لأنهم كانوا مثال الدأب والانضباط والجد والأخلاق والالتزام، فكانوا قدوة له بهذه السجايا، وذلك مما ساعده على بلوغ ما بلغ.

فبقدر ما كان يغيب هذا الأمر عن الأذهان في عصرنا، بالقدر نفسه الذي كان يبدو واضحاً وجليّاً. عصر الحاسوب والشبكة العالميَّة، حيث بدأ ينتشر بين الناس مفهوم التعليم الإلكتروني أو التعليم عن بُعد، فشاع الاعتقاد بأنّ هذا النوع من التعليم سيقلل من دور المُعلِّم، وسيأتي الوقت الذي لا يغادر فيه الطلاب بيوتهم، بل يكتفون بالدخول إلى الشّبكة لتلقي المعلومات ومن ثم حل المسائل والواجبات وكفى الله المؤمنين القتال.

إن الحواسيب والشبكة العالميَّة تطوُّر حضاري هائل، ولا نعارض أبداً استخدامه في البحث والعلم والدرس وتحصيل المعلومات، ولكن الذي نخشاه هو أن يكون استخدام هذه التقنية على حساب الدور البشري الإنساني.

لقد فوجئت الأوساط العلميَّة حول العالم بما فعلته جامعة "ماساتشوستس" الأمريكية، وهي من أشهر الجامعات الأمريكية وأعرقها، حين وضعت جميع مناهجها ومُقرَّراتها ومحاضراتها على الشبكة العالميَّة وجعلتها متاحة لكل طلاب العلم في الولايات المتحدة وفي بقية بلدان العالم، مع أن القسط السنوي المطلوب للدراسة في هذه الجامعة هو واحد وأربعون ألف دولار سنوياً، وظن من لا يعرف قيمة المُعلِّم، أن الإقبال سيقل على هذه الجامعة، فلماذا يقصدها القاصدون وعلمها متاح لكل من هب ودب؟ ولكن هذا لم يحدث، ولو كانت الجامعة تظن أنّ هذا سيحدث لما فعلت ما فعلته، ولكنها تدرك أن تخريج المؤهلين وأصحاب الكفاءات والخبرات، ليس بقراءة المعلومات والاطلاع عليها، بل لا بد من مخالطة العلماء، والوقوف في المختبرات، ومناقشة القضايا العلميَّة والفنيَّة، وتلاقح الأفكار والآراء، وهذا كله لا يحدث إلا في غرف الصف وقاعات المحاضرات.

فإذا كان الأمر كذلك في العلوم الكونية، فهو أشد وآكد في العلوم الإنسانيَّة والشرعية والإسلامية، ومن الخطورة بمكان أن يظن الآباء أن أبناءهم يمكن أن يأخذوا علوم اللغة أو التاريخ والاجتماع، من البرامج الحاسوبية أو المواقع الشبكية، والأمر يكون أبعد منالاً إذا تحدثنا عن القرآن الكريم وعلومه، ونخصها بالذكر لأن الشبكة العالميَّة تفيض ولله الحمد بالمواقع القرآنية الرائعة البديعة التي تحقق معجزة حفظ القرآن الكريم، "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وتحقق تعهد الله سبحانه وتعالى بتيسير تعلمه على الناس في كل زمان ومكان "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، ولكننا نهيب بالآباء والأمهات، وبكل طالب للعلم القرآني أن لا يظنوا ولو لحظة واحدة أن مواقع كهذه يمكن أن تغني عن الشيخ والأستاذ والمُحفّظ والواعظ، ورضي الله عن أمنا عائشة التي قالت تصف خلق حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن"، فمُعلِّم القرآن الحقيقي هو الذي يُعَلَّم أخلاق القرآن قبل حروفه، وأحكام فقهه قبل أحكام تجويده، وسجايا من أنزله الله تعالى عليه فتمثل بخلقه قبل إعراب كلماته، وهذا كله لا يتأتى ببرنامج حاسوبي، ولا بموقع شبكي، مهما كان مُتميِّزا وموفقاً.

إننا مع تشجيعنا ودعمنا ودعائنا بالتوفيق للمواقع والبرامج القرآنية وأصحابها، فإننا نوجه نداءنا إلى كل أب وأم، وكل طالب علم، ان يجعلوا من هذه المواقع مراجع مساعدة، ووسائل تسهل عليهم طلب القرآن وعلومه ليس إلا، وأن لا يستغنوا بها عن صحبة العلماء والأخذ عنهم وغشيان مجالسهم، فتلك مجالس يحبها الله ورسوله، ولهم فيها مع العلم والمعرفة والحفظ، الأجر والثواب ومجالسة الملائكة.

الكاتب: م. فداء الجندي

المصدر: عن شبكة النجاح