التعلم المعرفي والاجتماعي

ما هو نموذج التعلم المعرفي الاجتماعي؟



للتعرف على هذا النموذج دعنا نستقرئ الأمثلة التالية:

المثال الأول:

يدرس أبني مالك في المرحلة الثانوية، وذات يوم أخربني أن معلم التربية الإسلامية يود زيارته. وأضاف هذا المعلم يتمتع بقدرة عالية على الإقناع والحوار الديني الهادئ. ومخاطبة عقلي دون أن ينس عاطفتي الدينية. لقد أثر فيّ كثيراً. فتساءلت بيني وبين نفسي كيف وصل هذا المعلم إلى عقل أبني؟ ما سر إعجابه بذلك المعلم دون غيره من المعلمين؟ ترى ماذا ترك لديه؟ ماذا تعلم منه؟

المثال الثاني:

لبنى فتاة في التاسعة من عمرها. تكاد تكون صورة طبق الأصل عن أمها في كلامها، في لباسها. في هواياتها في رغبتها في التزين. ترى ما الذي جعلها هكذا؟ هل هي العوامل الجينية التي اكتسبتها من أمها؟ كيف تعلمت كل هذا؟

المثال الثالث:

أسامة عمره ست سنوات ومحمد عمره أربع سنوات يحرصان على متابعة أفلام الكرتون في إحدى المحطات الفضائية، لقد حفظا الكثير من المسلسلات حتى أنهما يكملان الجمل والأحداث أحياناً. ترى ما الذي يتعلمانه من هذه المسلسلات؟ وكيف يتعلمانه؟ ولماذا يتعلمان هذا السلوك بالذات؟

إن المتأمل لهذه الأمثلة وغيرها قد يجد من الصعب أن يفسر ما تم فيها من تعلم بالأشراط الكلاسيكي أو الاشراط الإجرائي إذن لابد من نموذج آخر في التعلم. تعال نبحث عن المشتركات في هذه الأمثلة الثلاثة:

وجود قدوة أو نموذج. ففي المثال الأول معلم التربية الإسلامية، وفي المثال الثاني الأم، وفي المثال الثالث أبطال الأفلام الكرتونية.

عملية ملاحظة واعية من طرف المتعلم. ملاحظة تصرفات النموذج وخصائصه الجسمية والمعرفية والانفعالية والسلوكية. الملاحظة ليست مجرد تلقي مثيرات سمعية أو بصرية من النموذج، إنما تمهد لعملية معالجة ما يتجمع لدى المتعلم من معلومات عن النموذج تحمل معارف لابد من فهمها بعد تحليلها وتقويمها، وتحمل انفعالات مناسبة (رضا، إعجاب، قبول، أو العكس رفض وعدم الرضا). وأخيراً اتخاذ قرار بالميل نحو أو الميل عن النموذج.

تقليد سلوك النموذج الذي حاز على إعجاب المتعلم وقناعاته فمالك أعجب بطريقة المعلم في الحوار الديني ولبنى تشربت سلوك أمها وأسامة ومحمد تذوقا أبطال المسلسلات الكرتونية وحفظا أسماءها وكثيراً من تصرفاتها. إنهم جميعاً اكتسبوا أو تعلموا أشياء كثيرة.

التعزيز غير غائب عن هذه المواقف الثلاثة، قد لا يكون مباشراً على طريقة الاشراط الإجرائي ولكنه ملحوظ لدى المتعلم يتمثل في رضا واستحسان النموذج وتشجيعه والافتخار به، وقد يكون تعزيزاً ذاتياً أي أن المتعلم يعزز ذاته على أدائه لسلوك النموذج. لا شك أننا أمام مواقف تعليمية مغايرة بشكل ملحوظ عن تلك التي عهدناها في النموذجين الأول والثاني، الذين ركزا على اكتساب السلوك الملاحظ والقابل للقياس.

فالنموذج الأول ركز على اكتساب الاستجابة الشرطية. بينما النموذج الثاني على اكتساب الاستجابة المعززة. بينما يركز هذا النموذج على وجود الآخر المتميز من جهة، وجمع المعلومات من خلال الملاحظة الموقفية، ومعالجة هذه المعلومات وتخزينها في البناء المعرفي لتصير محكات مرجعية لسلوك المتعلم. من هنا تعدد مسميات هذا النموذج التعليمي فعرف بداية باسم التعلم الاجتماعي، والتعلم بالملاحظة، والتعلم بالتقليد، وأخيراً التعلم المعرفي والاجتماعي.

 

فكيف درس علماء التعلم هذا النموذج؟

التعلم بالملاحظة:

هناك العديد من أنماط السلوك التي يتعلمها الفرد ولا تفسر عن طريق الاشراط الكلاسيكي أو الإجرائي. لقد طور ألبرت باندورا ALBERT BANDURA (1925) نظرية التعلم الاجتماعي لتفسير هذه الأنماط السلوكية، ويرى إن الفرد يتعلم أنماط السلوك هذه والتي تظهر في سياق اجتماعي من خلال مراقبة الآخرين.

إن التعلم عن طريق الملاحظة يزود الفرد بطريقة السلوك في البيت والمجتمع، فنحن نتعلم عن طريق الملاحظة كيف نسلك في المواقف الاجتماعية المتنوعة التي نواجهها.

ركز باندورا BANDURA على عملية النمذجة حيث يتعلم الفرد سلوكاً جديداً من خلال مراقبة الآخرين بحيث يعمل هؤلاء الآخرون كنماذج يعرضون سلوكاً يمكن أن يقلد. من خلال النمذجة فإنك تراقب السلوك ومن ثم فإن السلوك بكامله أو جزءاً منه يمكن أن تتعلمه وتكرره أو تعدل فيه.

في إحدى دراسات باندورا BANDURA المشهورة قُسَّم الأطفال إلى ثلاث مجموعات: شاهدت المجموعة الأولى راشداً يضرب لعبة، والمجموعة الثانية كان الراشد يتجاهل وجود اللعبة، والمجموعة الثالثة لم تشاهد راشداً على الإطلاق.

بعد ذلك تعرضت مجموعات الأطفال الثلاثة إلى مواقف إحباط من درجة بسيطة من خلال إبقاء المجموعات في غرفة فيها العاب وعدم السماح للأطفال باللعب بهذه الألعاب وفي المرحلة اللاحقة وضع الأطفال في غرفة أخرى احتوت العاب متنوعة من بينها اللعبة التي شوهدت في بداية التجربة، ولوحظ أن الأطفال الذين سبق أن شاهدوا الراشد يضرب اللعبة عرضوا سلوكاً عدوانياً كالذي سبق أن شاهدوه.

توصلت دراسات مشابهة إلى نفس النتائج وأشارت إلى أن مراقبة سلوك العدوان الذي يعرضه الفرد بشكل حي أدت إلى تأثير أقوى من مراقبة فيلم يُعْرض فيه فرد سلوكاً عدوانياً. وكذلك شريط فيديو يعرض فرداً إنسانياً له تأثير أكبر من أفلام الكرتون التي تعرض نفس سلوك العدوان.

التعلم بالنموذج:

إن التعلم بالنموذج له فوائد، أو يمتاز عن أنواع التعلم الأخرى لأنك في هذه الحالة لست بحاجة إلى أن تمر بكل الخطوات التي تتطلبها عملية التعلم وتتجه مباشرة إلى الناتج النهائي.

إن التعلم عن طريق الملاحظة يمكن أن يؤدي إلى تعلم مرغوب فيه وغير مرغوب فيه أيضاً. لأن النماذج قد تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، والملاحظ يتعلم كل الأمرين يقول أو يردد ما يقوله النموذج ويسلك مثله في نفس الوقت إذا كان الفرد محاطاً بنماذج إيجابية فإن لديه الفرصة لكي يتعلم أنماطاً سلوكيه إيجابية ولكن إذا لم تتوفر مثل هذه الفرصة فإنه ستجد صعوبة في أن يتعلم مهارات معينة.

إذا كان الراشدون في حياة الطفل يُعَبَّرون عن الغضب بشدة ويسلكون بطريقة غير لائقة، فإن من الصعب على الطفل أن يتعلم كيف يسيطر على الغضب ويتعامل مع مواقف الإحباط. وفي جانب أكثر إيجابية قام باندورا BANDURA بإجراء تجربة على أطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يخافون من الكلاب، وخلال ثماني جلسات مرتبة فإن النموذج في كل مناسبة متتابعة كان يلعب مع الكلب ويقترب منه أكثر ولمدة أطول، لوحظ أن أطفال المجموعة التجريبية أصبحوا أقل خوفاً من الكلاب من المجموعة الضابطة.

إن كلاً من النمذجة والاشراط الإجرائي يتدخلان في عملية التعلم فأنت تتعلم من خلال مراقبة الآخرين، ولكن فيما إذا كنت ستمارس هذا السلوك أم لا يعتمد جزئياً على النتائج المترتبة على القيام بالسلوك. تشير الدراسات أن هناك عدة خصائص للنموذج تجعل التعلم عن طريق الملاحظة أكثر فعالية فأنت كلما ركزت الانتباه تعلمت أكثر، وسوف تركز الانتباه على النموذج إذا كان خبيراً وذا كفاءة وجذاباً، وله مركز مرموق وتأثير أو نفوذ اجتماعي.

أننا نتعلم من النماذج من خلال ملاحظتنا أي السلوكيات تعزز وأيها تعاقب ومن ثم نكون قادرين أن نتنبأ حول ردود الفعل التي يولدها السلوك، ومن هنا نجد أن الآباء وبسبب هذا النوع من التعلم يهتمون بمقدار الوقت ونوعية البرامج التلفزيونية التي يشاهدها الأبناء.

في دراسة استمرت لمدة عام كامل حول العدوان في برامج التلفزيون وجد أن %57 من البرامج تضمنت العنف وأن في %73 منها لم يظهر أي عقاب لهذا العدوان.