التَّربِيةُ بَينَ المَعرفيّ والقِيَميّ

التَّربِيةُ بَينَ المَعرفيّ والقِيَميّ

ترجمة: محمد فاضل رضوان

في سياق انهماكنا بموضوعات التربية، وأسئلة الثقافة والمجتمع، وفي أثناء محاولتنا الاطلاع على تجارب الآخرين ومساءلتهم الدائمة للمعرفة ومدارسها، نقدم هذه المواد الثلاث لخبراء وأساتذة في الجامعات الكندية، جمعها وترجمها الزميل محمد فاضل بحكم تواجده في كندا لغاية استكمال الدراسة، ما يمكّنه من الاطلاع على ما يجري فيها من بحوث ودراسات وتجارب تطبيقية، نرى معه أهمية ترجمتها للغتنا وتقديمها للتربويين الفلسطينيين والعرب، لنوفر أساسات معرفية نعيد على هديها مساءلة معرفتنا والتأمل في ممارساتنا التربوية.



بحكم انشغالنا بالمعرفة كمعرفة أولاً، إلا أننا نقدمها هنا في سياق أن نعرف أولاً، ولكن نعرف لنسأل ونختبر ونبحث، فما نقدمه في هذا السياق هو مساحة إضافية لتعميق الحوار وتنمية فضاء الممارسة، ولذلك كانت هذه الترجمات متداخلة ومتنامية تبدأ من النظرية البنائية كخلفية معرفية، تبحث في التعلم كنسق بنائي مشروط بمقولات المعايشة والاختبار والحوار بين ما نعرف وما نختبر، ما يؤسس لحوار آخر حول إشكاليات التعليم كبناء للمعنى ومفاوضة دائمة له، لجعل التعلم سيرورة من المحاججة والنماء، ومن هذا الربط بين بناء المعنى ونمو الشخص جاء البحث الأخير عن مكانة القيم ودورها الوظيفي في الفعل التربوي.

النظرية البنائية بمصطلحات بسيطة

دمينيكو ماسكيوترا1

إن الرؤية البنائية كوضعية إبستمولوجية تبين إمكانية أن يطور الشخص ذكاءه ويبني معارفه عن طريق الانخراط في الحركة ونتائجها.  في هذه الحالة سيدمج الشخص المعني ويفهم الوضعيات الجديدة من خلال ما كان يعرفه سابقاً، كما يقوم بتعديل معارفه الداخلية من أجل التكيف مع المعارف الجديدة.  هذا التكيف مع الوضعيات الجديدة من شأنه توسيع شبكة المعارف الداخلية التي يملكها الشخص وإثراؤها.  كما أن النمو المتواصل لشبكة معارفه سيمكنه من معالجة الوضعيات الأكثر تعقيداً.

 

إن البنائية هي نظرية الـ "أن نعرف" (connaître) الفاعلة والإيجابية أكثر مما هي نظرية المعرفة (la connaissance) السالبة والعدمية، فهي نظرية لا في كيفية المعرفة بشكل عام، بل هي في الكيفية الفاعلة والإيجابية لعملية "أن نعرف"، من منطلق أن الحركة هي ما يقف وراء التطور المعرفي.  بهذا المعنى، فإن البنائية تهتم بالمعرفة ضمن الحركة (action) وبفعل الـ "أن نعرف" (connaître).

 

وعن سؤال: ما معنى أن نعرف؟ فإن البنائية تجيب كالآتي: أن نعرف معناه أن نتكيف مع الجديد، إنها مسألة ذكاء الوضعيات الجديدة، لأن وظيفة الذكاء هي تحقيق التكيف مع هذه الوضعيات الجديدة، فشخص ما يتكيف حين يعيش التجربة الفاعلة والإيجابية لبيئته.

 

أهمية التجربة الفاعلة

هناك دراسة شهيرة لهايلد وهين أنجزت العام 1958 توضح بشكل جيد الفرق بين التجربة الفاعلة للبيئة والتصور العدمي لهذه الأخيرة.  لقد قام الباحثان بوضع مجموعة من القطط الحديثة الولادة في الظلام لأسابيع عدة، بعد ذلك تم إخضاعها لتجربة بصرية في ظروف مراقبة.

 

تم تقسيم القطط الصغيرة إلى مجموعتين، سمح للأولى بالتحرك بحرية، فقامت بإنجاز التجربة البصرية في البيئة بفعالية كبيرة، بينما تم وضع المجموعة الثانية في عربة ونقلها في الفضاء نفسه، بحيث لم تستطع سوى المشاهدة السلبية لهذا الفضاء.  بعد التجربة تمت إعادة المجموعتين إلى الفضاء نفسه، وأجبرتا على التحرك، تصرفت قطط المجموعة الثانية كما لو كانت عمياء، فلم تكن قادرة على التحرك في الفضاء، إذ كانت تصطدم بمختلف الحواجز والعراقيل وتسقط، بعكس المجموعة الأولى التي عبرت الفضاء بسهولة.

 

حسب فاريلا (1993): "هذه التجربة تعتمد الأطروحة التي تقول إن الإدراك البصري لا يتم بفضل التقاط المعلومة من الوسط الخارجي بقدر ما يتم بفضل القيادة البصرية الذاتية للحركة"، فلأن قطط المجموعة الأولى تحركت في الفضاء بالاعتماد على إدراكها البصري، فقد استطاعت بناء هذا الفضاء وتعلمت كيف تتنقل فيه، أما قطط المجموعة الثانية العدمية فإنها ظلت حبيسة نظرة جامدة لم تساعدها على التنقل في الفضاء.

 

في هذه التجربة، يمر كل شيء كما لو كنا نطلب من القطط العدمية أن تعرف الوسط الخارجي وأن تلاحظ بصرياً بيئتها وأن تتمثلها، ثم بعد ذلك نطلب منها أن تطبق ما تعلمته في الواقع.  الشيء نفسه كان يطبق على الإنسان حين كان يتم تعليمه السباحة أولاً خارج الماء، إذ يتم ربط المتعلم فوق مستوى الماء برباط وعدم السماح له بالنزول إلى الماء إلا بعد أن يُتم بشكل سليم الحركة التقنية المصاحبة للسباحة.  في هذه الحالة، يكون فيها هذا المتعلم في حالة مشابهة للقطط المنقولة في العربة.

 

في بعض التطبيقات البيداغوجية يكون المتعلم بشكل ما عدمياً، ومن نماذج هذه البيداغوجيا العدمية أنه من أجل تدريس التبادلية (la commutativité) في الرياضيات، فإننا نباشر القيام بتمارين روتينية من هذا النوع (3+2=5 إذن 2+3=؟) و (5+4=9 إذن 4+5=؟) ... وهكذا دواليك.

 

يتم تكرار نماذج من هذه التمارين لفترة من الوقت، بعدها يخبر المدرس المتعلم أن الترتيب الذي تجري في إطاره عملية الجمع لا يلعب أي دور، وأن هذا الأمر يسمى تبادلية الجمع، كما أن الراشدين قد يتعلمون تبادلية الجمع من خلال التعليم المبرمج (انظر الجدول التالي):

 

الرقم

المسألة

الإجابة

1

2+4= 6    إذن 4+2 = ؟

6

2

5+4= 9    إذن 9- 5 = ؟

4

3

أ+ب = ج    إذن ب+أ =؟

ج

4

س= ي+ز    إذن س= ز+؟

ي

5

الترتيب الذي يتم فيه الجمع لا يلعب أي دور. هذا قانون تبادلية الجمع.  هذا القانون يقول إن ب+ أ = أ+ ؟

ب

6

معطى أن س+ي=ي+س يسمى قانون تبادلية ........

الجمع

7

معطى أن س+ي=ي+س يسمى قانون ....... الجمع

تبادلية

8

مجموع ثلاثة عناصر أو أكثر هو نفسه مهما كانت الطريقة التي تم جمعها بها.  3+4+6=(3+4)+؟

6

 

 

تعلم التبادلية بواسطة التعلم المبرمج الخطي

في هذا النوع من التعلم، لا يرى المتعلم الإجابة التي تقدم له في السطر الموالي (تكون النتيجة مخبأة بشكل ما على سبيل المثال بواسطة قطعة من الورق...).  بما أن النتيجة مضمنة سلفاً في المعلومة التي نقدمها له قبل طرح السؤال، فإن الأمر يتعلق إذن بأجوبة يتم حفظها دون أن تكون ناتجة عن تجربة فاعلة.

 

في هذا المثال الأخير، يكون المتعلم بشكل ما عدمياً، فكل ما هو مطلوب منه هو أن يستدمج نتيجة ما في كل واحد من زوجي التجميعات، كما أن النتيجة تقدم له سلفاً في التجميعة الأولى، بعدها عليه حفظ تعريف التبادلية الذي قدم له هو الآخر بشكل مباشر.  إن التعليم بهذا الشكل لا يقدم  ضمن تجربة فاعلة في وضعية تفرض على المتعلم أن يستعمل من خلالها معارفه الحسابية.  تجربته تشبه إلى حد كبير تجربة القطط العدمية أو السباحين المربوطين أعلى الماء.  خلاصة القول، فإن فعل التعلم يتم عن طريق حفظ معلومة معينة، وحين يتحقق التعلم، فإننا ننتظر من المتعلم أن يعيد ما تم حفظه خلال الامتحانات، ثم تطبيقه في مختلف الوضعيات الحياتية فيما بعد!

 

يحكي بياجيه (1977) كيف اكتشف عالم رياضيات مفهوم التبادلية من خلال تجربة فاعلة قام بها حين كان طفلاً: ككل طفل صغير، كان يعد مجموعة من الأحجار، إذ يقوم بوضعها في خط مستقيم، ثم يعدها انطلاقاً من جهة اليسار إلى اليمين، فيجد أن عددها عشرة، بعد ذلك ومن أجل التسلية يقوم بعدها من اليمين إلى اليسار، فيفاجأ بأن النتيجة هي أيضا عشرة.  بعد هذا يكوّن دائرة بواسطة الأحجار، ثم يبدأ العد من جديد، فيحصل دائماً على العدد عشرة، ثم يقوم بالعد في إطار الدائرة من الجهة الأخرى، فيكون العدد أيضاً عشرة.  هكذا سيصل في جميع الحالات إلى العدد نفسه.  انطلاقاً من هذا، استنتج أنه في الجمع الرياضي توجد تبادلية: أي أن المجموع مستقل عن الترتيب.

 

في هذا المثال، تم فهم التبادلية ضمن الحركة والوضعية، فالمتعلم قد تعلم عن طريق تطبيق معارفه الداخلية (العد، ترتيب الأحجار، وضعها في إطار دائرة...).  إن فعل التعلم ليس هو نفسه المتعلق بالحفظ، فحين يتم تعلم معرفة ما في إطار الحركة، فإنها تأخذ معناها لدى الشخص المتعلم بشكل طبيعي كما لا تتطلب بالضرورة جهداً من أجل استحضارها.

 

إن بيداغوجيا تستلهم النظرية البنائية تقترح على المتعلمين وضعيات مشابهة لتلك المتعلقة بالطفل الذي يعد الأحجار، أو بالقطط الفاعلة.  لدى الطفل المذكور، يؤدي الإدراك البصري إلى أفعال الترتيب والعد.  إن البيداغوجيا المذكورة لا تستخلص معلوماتها من الخارج، وتعالج نتائج الحركة الخالصة، فالأحجار نفسها ليست سوى دعامة للفكر البنائي.  بهذا المعنى، يقوم المتعلم بأفعال، بعدها يفكر في أفعاله ونتائجها وتداعياتها، ثم فيما بعد يعود إلى الفعل وهكذا دواليك، إلى أن يتمكن من بناء مفهوم التبادلية.

 

أن نتعلم، معناه أن نطبق

معارفنا الداخلية 

الـ "أن نعرف" هي سيرورة فاعلة: معناها أن نفعل وأن نطبق معارفنا الداخلية، فمعرفة الجديد تتم دوماً انطلاقا مما نعرفه من خلال الحركة، لأن المعرفة تعاش وتؤخذ في شكل حركة.  إننا نقدم معنى للوضعيات ليس من خلال معالجة المعلومات فقط، بل ومن خلال تنشيط معارفنا الداخلية.  دون هذا التنشيط، فإن الوضعية التي نوجد فيها وكل ما تحتويه (موضوعات، أشخاص...) ليس لها أي معنى.

 

إن الطفل الذي يدخل التعليم للمرة الأولى لا يأتي فارغاً من كل المعارف، فلديه قدر معرفي كبير، من هذا المنطلق سيكون من الحمق أن نعتقد أنه لا يعرف أي شيء في النحو ما دام قادراً على تركيب ما لا حصر له من الجمل شفوياً بشكل صحيح على المستوى النحوي، من هنا يعلن أحد أهم مبادئ البنائية عن نفسه: إن كل تعلم لا يتحقق إلا انطلاقاً من معارفنا الداخلية.

 

حين أعلم الأطفال كيفية اللعب بالكرة، فأنا أعلّمهم ما أستطيع أنا أن أفعله، رمي الكرة في الهواء وإعادة التقاطها، لكنني سرعان ما أنتبه إلى أنني لا أستطيع أن أحدد لهم مسارات مضبوطة لرمي الكرة، وأنني أنا نفسي لا أربط بشكل دقيق بين رميي الكرة والتقاطي لها.  عليّ إذن في هذه الحالة تحويل حركاتي عن طريق تصفيتها وضبطها بشكل جيد، مبدأ ثانٍ أساسي من مبادئ البنائية يعلن عن نفسه هنا: كل تعلم يقوم على تحويل المعارف الداخلية.

 

المبدآن المعلنان هنا يستجيبان للوظيفيتين المعرفيتين المعرفتين من قبل بياجيه: الاستيعاب (assimilation) والملاءمة (accommodation).  التماثل مع عملية الهضم سيمكن من الإعلان عن هاتين الوظيفيتين اللتين يستعيرهما بياجيه من حقل البيولوجيا.

 

المماثلة مع الهضم

إن بث العناصر الغذائية في نظام جسمي ما، يتطلب تحولاً مزدوجاً: الأول يتعلق بالعناصر الغذائية فيما يتعلق الثاني بالنظام الجسمي نفسه.

 

تحول العناصر الغذائية

يجب أن تتجزأ العناصر الغذائية الصلبة إلى عناصر غذائية دقيقة من أجل أن تندمج في النظام الجسمي، فلن يتم بث جميع هذه العناصر في هذا الجهاز، بل بعض من مكوناتها الدقيقة فقط.  هكذا فإن المفهوم البيولوجي للاستيعاب يحيل بشكل دقيق على السيرورة التي تمكن من بث العناصر الغذائية الدقيقة في التركيبة الفيزيولوجية للنظام الجسمي، دون أن يحدث ذلك تعديلاً ذا معنى على هذه التركيبة.

 

تحول النظام الجسمي

شخص ما لا يتناول أبداً فواكه البحر، والمأكولات المتبلة، والمشروبات الكحولية، قد يتعرض لمشاكل هضمية في المرات الأولى التي قد يتناول فيها هذه العناصر الغذائية، وحتى شرب ماء الحنفية أو تناول أغذية في بلدان غريبة، قد يحدث اختلالات معدية أو معوية.  حين يمتص النظام الجسمي أغذية غير اعتيادية، فإنه يصبح على جهازه الهضمي أن يتحول وأن يعيد ضبط ذاته مع هذه العناصر الجديدة كأن يقوم مثلاً بإفراز أنزيمات معدية تقوي مقاومة هذا الجهاز للتوابل والكحول.  هكذا فالمفهوم البيولوجي للملاءمة يحيل على تحول الجهاز الهضمي من أجل أن يتكيف مع العناصر الغذائية الجديدة.

 

حين نقوم بتغذية رضيع ما، فإنا نقدم له التغذية المناسبة لنمو جهازه الهضمي وتطوره، بشكل مطرد عبر المرور من التغذية بالسوائل إلى أنواع جديدة من الغذاء الرخو إلى الصلب.  هكذا تتم ملاءمة الغذاء مع جهازه الهضمي الذي يتحول باستمرار.  هذا التحول الداخلي يحدث ارتباطاً بنمو الجهاز، لكنه يتم أيضاً بفعل قدرة هذا الجهاز على استيعاب العناصر الغذائية وملاءمتها.  نسجل هنا محدودية التدخل الخارجي، فنحن نستطيع أن نغذي الرضيع، لكننا لا نستطيع أن نمنحه جهازاً هضمياً، ولا أن نقوم عوضاً عنه بعمليتي الاستيعاب والملاءمة، هذا الأمر نفسه يحدث على المستوى المعرفي.
من وجهة نظر البنائية، فإن للجهاز المعرفي لشخص ما، وظيفة مشابهة لوظيفة جهازه الهضمي.

 

أن نتعلم يعني أن نستوعب ونلائم

لمفهومي الاستيعاب والملاءمة وظائف معرفية أيضاً: فمن خلالهما نفهم كيف تشتغل المعارف من أجل ولوج المجهول انطلاقاً من المعلوم.  من وجهة نظر هاتين الوظيفتين، أن نتعلم أمر معناه أن نكون فاعلين بشكل مزدوج، فمن أجل أن يتعلم شخص ما شيئاً جديداً، فإن الأمر يتطلب استيعاب معارف داخلية من جهة، وإحداث تحول على معارفه من جهة أخرى عن طريق الملاءمة.

 

الاستيعاب

في البدء، لا يستطيع شخص ما استيعاب معارف جديدة إلا ضمن شبكة المعارف التي يحصل عليها سلفاً.  أن نستوعب، معناه أن نجعل الأمر مشابهاً، فمفهوم استيعاب المهاجرين معناه أن نجعلهم مشابهين لأفراد المجتمع الذي استقبلهم. الدلالة نفسها نجدها على المستوى المعرفي، استيعاب معارف جديدة، معناه جعلها مشابهة لتلك التي نحصل عليها.  إن الأمر يتعلق بشكل أو بآخر بتحويلها إلى معارف قديمة.

 

على سبيل المثال، نأخذ تعلم نطق الكلمات حسب اللغة التي يتكلمها كل شخص: استيعاب نطق كلمة تنتمي إلى لغة أخرى سيفرض على الشخص نطقها وفق لغته الخاصة، فكلمة (هل تحتاج إلى ت) تنطق في الفرنسية بيزا، لكن شخصاً إيطالياً سينطق الكلمة نفسها كما هي مكتوبة، بيتزا.

 

الاستيعاب معناه تحويل المعارف الجديدة إلى معارف قديمة.

إن الاستيعاب بهذا المعنى عنصر مشوِّه (بكسر الواو)، بياجيه يعجبه أن يقول إنه عندما تأكل المعزة الملفوف، فليست المعزة هي من يتحول إلى ملفوف، بل إن الملفوف هو الذي يتحول إلى معزة، أن نستوعب إذن معناه أن نحول ما هو جديد ونقوم بتبيئته وفق مفاهيمنا الخاصة ... من هنا تأتي أهمية أن نطلب من المتعلمين عدم التكرار الحرفي للمادة التي نقدمها لهم ونحاول التعبير عنها بمفرداتهم الخاصة، من أجل أن نتعلم ينبغي أولاً تحويل ما هو جديد والتعبير عنه بمفرداتنا الخاصة.

 

غالباً ما نقول إن التعلم معناه استيعاب المادة؛ أي أننا نعتقد أن المادة كما هي، يتم ترسيخها في الذهن دون أي تحويل.  هذا الفهم للاستيعاب لا يتوافق مع الفهم الذي تقدمه البنائية.

 

إن الاستيعاب في المعنى البنائي يفرض دائماً نوعاً من التحويل (تحويل الملفوف إلى معزة كما في المثال).  وفق منطق الهضم ينبغي تحويل العناصر الغذائية الصلبة إلى عناصر غذائية دقيقة، من أجل أن يتم استيعابها.  هذا المثال يسري على المعارف أيضاً، إذ ينبغي تحويل المعارف المستقبَلة (بفتح الباء) من الخارج إلى عناصر معرفية دقيقة يتم استيعابها من قبل الجهاز المعرفي للشخص.

 

هناك نقطة مهمة لا يمكن تجاوزها، إذا كان بإمكان متعلم أن يستوعب المعرفة التي نقدمها له حرفياً دون أي تحويل، فهذا الأمر معناه أنه لن يتعلم إلا الأشياء التي يعلمها سلفاً، بمعنى آخر أنه لن يتعلم أي شيء جديد مما ندرسه له.

 

إننا حين نستوعب حرفياً، فنحن لا نتعلم شيئاً جديداً لأننا لا نحول أي شيء.

بعض نظريات التعلم لا تأخذ الاستيعاب بعين الاعتبار.  فالنظرية السلوكية تتحدث عن تعديل للسلوك ضمن البيئة الخارجية: أي أن كل شيء يمر كما لو كان الأمر لا يتعلق إلا بملاءمات (يتم وصفها بتعديل السلوك) من أجل التعلم.  بالمقابل، وبما أن النشاط الاستيعابي يأتي بمبادرة داخلية من الشخص، والنشاط الملاءماتي يفرض من خارج الشخص، فإن المقاربة السلوكية لا تبدو منسجمة إلا حين تقترح أن يتعلم الشخص بشكل سلبي.

 

إن السلوكية تهمش دور الاستيعاب ضمن سيرورة التعلم وتتعلق بالملاءمة المختزلة في تعديل سلبي عدمي للسلوك.  من وجهة نظر البنائية، فإن الاستيعاب الخالص للجديد يشكل بمعنى ما نوعاً من التشويه لهذا الجديد.  إن فعل الاستيعاب لا يقود إلى الجديد إلا إذا، وفقط إلا إذا، ترافق بملاءمة أي تحويل لمعارف قديمة.

 

الملاءمة

حين يستوعب شخص شيئاً ما، فإن هذا الشيء يفرض عليه معارفه: في مثالنا السابق، فإن الشخص يقرأ كلمة بيزا عوض بيتزا.  في هذه الحالة، ليس هناك تعلم جديد، بل على العكس، حين يحول هذا الشخص طريقة نطقه بالمرور من كلمة بيزا إلى كلمة بيتزا، فإنه يكون بصدد ملاءمة طريقة نطقه.  ببساطة، على مستوى النطق، فإن تعلم لغة جديدة يتطلب مجموعة كبيرة من الملاءمات، ومن أجل أن نتواصل داخل لغة ما فإنه يبدو من الضروري أن نقوم بتعديل لكنتنا وطريقة نطقنا، لهذا يجد الفرنسيون صعوبة كبيرة في فهم كلام الكيبيكيين الذين يتكلمون الفرنسية أيضاً.  لكن تغيير اللكنة ليس بالبساطة التي يظهر بها، فهو يتطلب ملاءمات متنوعة.  فأن نلائم معناه أن نحول معارفنا القديمة إلى معارف جديدة.

 

الملاءمة تعني أن نحول معارفنا القديمة إلى اختلافات، على سبيل المثال نستطيع أن ننطق لفظ (table) بالفرنسية والإنجليزية، في كل حالة يتم توقيع تعديلات معينة، أثر هذه التعديلات يطال معارف الشخص المعني.  خلاصة القول، تتجدد المعارف في كل مرة تفعل فيها.  ومن أجل أن نتعلم شيئاً جديداً ينبغي الجمع بين الاستيعاب والملاءمة، فالمعارف القديمة تستوعب المعارف الجديدة ثم تتلاءم الاثنتان فيما بينهما.

 

كل تعلم فهو ناتج عن سيرورة موازنة بين الملاءمة والاستيعاب

تحويل المعارف يبدو في بعض الأحيان أكثر أهمية، ويصل مداه إلى تعديل حتى نظام هذه المعارف.  هكذا فتعلم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية يفرض تعديلاً لبنية المعارف، لأن لكل لغة بنية خاصة، فبالنسبة لشخص ناطق بالفرنسية، أن يتكلم بالإنجليزية أمر معناه أن يعيد تنظيم معارفه.

 

أن نقوم بالملاءمة أمر معناه أن نقوم

بتنويع معارفنا الداخلية وإعادة ترتيبها

إن البيئة هي التي تقوي الملاءمة، فحين أتكلم مع شخص باريسي غير متعود على لكنتي الكيبيكية للغة الفرنسية، فإنني أجد نفسي أبذل جهداً كبيراً من أجل ضبط لكنتي إذا كان يعنيني أن يفهم ما أقوله.  معيار نجاح ملاءمتي يتحدد بمدى فهم الشخص الباريسي لما أقول، بمعنى أكثر تجرداً فإن قبولي بأن أ < ب، وأن ب < ج، سيقودني مع الوقت بالتأكيد إلى أن أفهم أن أ < ج.

 

إن أي معرفة لا توجد أبداً معزولة، فهي دائماً مرتبطة بمعارف أخرى، فليس بإمكاني معرفة اللون الأصفر ما لم تكن هناك ألوان أخرى أقارنه معها.  إن اللون يمثل بنية معرفية (معرفة عامة) تمكن من إدماج التنوع الكبير للألوان والتفريق بينها (معرفة خاصة).  إن الجانب المعرفي لدى شخص ما سيصبح بهذا المعنى منظماً وفق بنيات متشابهة، بنيات متسعة قليلاً أو كثيراً ومدمجة لمعارف بعينها.  هذا الشخص لن يستطيع أن يقدم معنى ما لحالة أو لموضوع إلا عن طريق استيعابه لهذه أو ذاك أو لمجموعة من البنيات المعرفية.  فالقدرة على الاستيعاب لدى شخص ما، تقوم على مدى تنوع معارفه الداخلية وبنينتها.  بالمقابل، فإن المعارف التي يمتلكها قد تم بناؤها عند الملاءمات الداخلية.  أن نستوعب إذن أمر معناه أن نطبق معارفنا الداخلية مع الاهتمام بالملاءمات التي في وسعنا القيام بها.

 

إن كل ملاءمة جديدة توسع من هامش إمكانات تطبيق معارف شخص ما، وأهمية هذا الاتساع تزيد أو تقل بحسب ما إذا كانت معارف محددة (spécifiques)، مبنينة (structurales)، أو مفاهيمية (conceptuelles). على سبيل المثال، فتعلم تجميعات جديدة (1+1=2، 1+2=3 ...)، يوسع بشكل نسبي القدرة على استيعاب المعارف. على العكس من ذلك، فإن فهم مفهوم العدد مثلاً يضاعف هذه القدرة عشرات المرات، هكذا فإن فهم بنية الأعداد الموجبة من شأنه أن يمكن من تصور كل عمليات التجميع والضرب الممكنة والقيام بها، لكن ليس كل عمليات الطرح ولا كل عمليات القسمة.  حين نوسع هذه البنية لتشمل الأعداد السالبة، فإن هذا الأمر سيمكن من تصور كل عمليات الطرح الممكنة والقيام بها، أما إذا وسعنا البنية لتشمل الأعداد الكسرية، فإننا سنتمكن حينها من القيام بكل عمليات القسمة الممكنة.

 

إن العدد ليس سوى مثال يوضح أن المعرفة المبنينة تمكن من إدماج كل المعارف المحددة وتفعيلها.  فحفظ التجميعات من أجل ذاتها عن طريق ترسيخها في الذهن، لن يؤدي بالضرورة إلى بناء معارف مبنينة، هذه الأخيرة تكتسب بشكل أفضل من الطريقة التي يبني من خلالها الطفل الذي يلعب بأحجاره مفهوم التبادلية.  لكل هذا، فكلما استدمج مفهوم اللون عند شخص ما ألوان متعددة ومختلفة، زادت قدرته على الاستيعاب، هكذا نفهم أن نطاق اللون عند رسام محترف هو أكثر تنوعاً منه لدى مبتدئ، فالأول يستطيع تخيل تنوع أكبر للون الأصفر أكثر من الثاني. 

 

أن نستوعب ونلائم، معناه أن نتكيف

حين يجد شخص ما نفسه في مواجهة وضعية جديدة، حيث الاستيعاب ليس متبوعاً بملاءمة، فإن هذا الأمر يخلق بعض اللاتوازن.  بالمقابل، ما إن يتمكن هذا الشخص من القيام بالملاءمة حتى يعيد التوازن الذي يحقق التكيف مع الوضعية الجديدة.  بناء التبادلية من قبل عالم رياضيات يقدم مثالاً لا توازن متبوعاً بإعادة توازن.  حين يقوم الطفل في المرة الأولى بعدّ الأحجار الممتدة من اليسار إلى اليمين، فإن التوازن يبدو متحققاً، لأن لا شيء يشوش على طريقة رؤيته.  بالمقابل، حين يعدّ الأحجار مرة ثانية من اليمين إلى اليسار، فإنه يتفاجأ بالحصول على النتيجة نفسها الشيء الذي يحدث لا توازناً على طريقته في الرؤية.

 

بالنسبة إليه، فإن العدَّ في اتجاه معين لا ينبغي أن يقود إلى النتيجة نفسها التي نحصل عليها حين نعد انطلاقاً من الاتجاه المعاكس، وذلك لأنه لم يبنِ بعد مفهوم التبادلية.  من أجل تحييد هذا اللاتوازن، فإنه يقوم بتجربة فعالة حين ينظم الأحجار في اتجاهات مختلفة، مع التأكد مما إذا ما كانت النتيجة هي نفسها في كل الحالات.  بالتفكير في تجربته سيستخلص الطفل أن النظام الذي يعد من خلاله أحجاره لا يلعب أي دور في تحديد نتيجة العد.  هكذا سيستعيد التوازن عن طريق الربط بين فكرة الملاءمة ومعطيات التجربة.

 

الأمر الأساسي أن هذا الطفل لا يعرف بعد مفهوم التبادلية، لكنه تمكن مع ذلك من بناء المفهوم، ذلك أن كل شخص يقوم بالتجربة انطلاقاً من فكرة توجد في رأسه لا يستطيع ترجمتها إلى كلمات.  إن الفكرة توجد حتماً، لذلك فإن البنائية تسلم إلى أن المعرفة تأتي من الحركة ومن التجربة النشيطة والفاعلة والتفكير حول الحركة في إطار وضعية معينة، وليس بالضرورة من اللغة على الرغم من أهمية هذه الأخيرة في التطور الذهني.


إن بإمكان شخص ما بناء مفهوم دون معرفة اللفظ الذي يحدده، فالمفاهيم تخرج من رحم التجربة الفاعلة (الحركة والتفكير حول الحركة...).

أن نعرف وأن نفعل: أن نفعل معناه أن نقوم بتطبيق معرفة أو شبكة معارف، فالمعرفة تؤدي دوماً إلى حركات قد تكون خارجية حين يتعلق الأمر مثلاً بالكتابة أو القراءة أو الكلام أو اللعب بالكرة أو السباحة ... أو داخلية عقلية حين يتعلق الأمر مثلا بالتخيل أو التفكير... .