وعلى الرغم من مضي خمسين عاماً أو يزيد على تحرر كثير من البلدان العربية واكتشاف الثروة النفطية الهائلة التي عادت عليها بالمردود المادي الضخم، فإن النظم التربوية فيها لم تؤتِ أوكلها حتى الآن، ولم تحقق نقلة نوعية في مجتمعاتها على الأصعدة كافة، إضافة إلى تدني التعليم وتراجع مكانته وقيمته في سلم أولويات المواطن. فلو أخذنا كوريا الشمالية -على سبيل المثال- تلك الدولة النامية والفقيرة التي تعاني أوضاعاً اقتصادية مأساوية، نرى أنها استطاعت القضاء على الأمية الأبجدية والعلمية والتكنولوجية، وتغلبت على كل مخرجات الحياة العصرية، وتفاعلت معها، وشاركت في إنتاجها. بالمقابل لم تستطع الدول العربية القضاء على الأمية الأبجدية التي تجاوزت السبعين مليون أمي حسب آخر إحصائية لتقرير التنمية العربية، وبالاعتماد على تقديرات الباحثين" فإنه من المتوقع ألا يستطيع العالم العربي القضاء على أمية الرجال قبل 2025، أما بالنسبة للنساء فسوف لن يكون ذلك قبل 2040".4 إن هذه الكارثة القومية توقعها كثير من المفكرين والتربويين العرب، ونتيجة السجالات الدائرة لوضع آلية معينة للخلاص من هذه الكارثة، ووضع تصور جديد لحل إشكالية الفكر التربوي العربي الحاضر الذي يمثل عصر انحطاط بالنسبة لماضيه الزاهر والحافل بالنظريات والاتجاهات التربوية، انقسم التربويون إلى فريقين:
الفريق الأول: من دعاة الأصالة والعودة اللا مشروطة للموروث الفكري والتربوي الزاخر بالنظريات والاتجاهات التربوية القيمة لأحيائه، وبعث مضامينه التي تحقق المكانة التربوية المطلوبة؛ إما على مستوى مضاهاة عرب الأمس وإما على مستوى التميز عن الغرب.
الفريق الثاني: من دعاة الحداثة والمعاصرة للغرب، "وذلك باستبدال اللغة والأساتذة والبرامج المحلية بالكفاءات والخبرات والأدوات الأجنبية. فالمطلوب هو تقليد الغرب ومحاكاته في تصوراته وممارسته التربوية، قصد حرق المراحل واللحاق بركب الحضارة العالمية وتربوياتها الحديثة التي لا ترى في إحياء التراث التربوي أو إعادة اكتشاف فتراته الزاهرة الوسيلة المثلى للاستمرار في تألقها وازدهارها.5
في الواقع إن كلتا الأطروحتين تسعى لتحقيق هدف واحد، لكن بأساليب ووسائل مختلفة، والإشكالية بين كلا الفريقين تزداد حدة يوماً بعد يوم، دون أن يلوح في الأفق أي بادرة أمل للوصول إلى رؤية موحدة لكلا الطرفين، وأمام هذا الجدل تبقى السياسة التربوية هشة ومترهلة وغير قادرة على مواجهة تحديات المستقبل واستيعاب مضامينه، الأمر الذي يجعلها دوماً عرضة لتغيرات عشوائية ومبادرات تخبطية وإصلاحات ترقيعية.
وللخروج من أزمة الفكر التربوي والنهوض به لا بد من إيجاد فلسفة تربوية ليبرالية تزاوج بين الأصالة والحداثة، تتماشى مع النظريات التربوية الحديثة، قائمة على أساس ترسيخ روح النقد والجدل عند الناشئة، وتوفر لهم كل شروط الاستقلال والتحرر. "إن التربية لتغدو ظلماً وطغياناً إذا لم تؤدِّ إلى الحرية" (Herbart). بهذا المدخل الليبرالي فقط، يمكن للآراء أن تتفتح وللشخصيات أن تنمو ويترسخ لديها الاحترام المتبادل وتزداد الفسحة أمامها للاقتناع الحر من أجل الوصول إلى مكانة علمية رفيعة ووظيفة تنموية حقيقية.
إن التربية والتعليم هما المخزون الإستراتيجي المتبقي للحاق بركب الحضارة الإنسانية، وهما الأساس في بناء الفرد والمجتمع، وإلا لما كانت التربية قد حظيت بمكانة داخل كل دساتير الدول، والهدف المبتغى من كل عملية تربوية هو تكوين هوية ثقافية سليمة الجذور والإعداد لبناء مجتمع متوازن له جذور حضارية، يتميز أفراده بشخصية قوية وقادرة على مواجهة المستقبل، فثمة معيقات كثيرة تشد التربية العربية إلى الوراء، وتحول دون وصولها مبتغاها وتحقيق هدفها المنشود، ومسايرة العلم والتكنولوجيا أهم هذه المعيقات.
المناهج التعليمية
"وراء كل أمه عظيمة منهج تربوي عظيم"
أعتقد أنه لا أحد يخالفني الرأي في كون المناهج التربوية العربية هي مناهج كلاسيكية وتقليدية على الرغم من كل عمليات الإصلاح والتجديد الآني غير المعتمدة على رؤى مستقبلية تمتد إلى عقدين من الزمن على الأقل. من هنا تنحو مناهجنا التعليمية إلى النزعة الماضوية التي لا تتماشى مع احتياجات الفرد والمجتمع والتحديات الحالية وامتداداتها المستقبلية. أو إلى تبني مناهج تربوية غريبة عن محيطها الاجتماعي مثلاً التي يعترف أصحابها بأنها مناهج متخلفة أمام المناهج اليابانية، هذا لا يعني تنكرنا لكل ما هو غير عربي، لأنه غير عربي، بل لأن تلك المناهج بتنظيمها وفلسفتها ومحتواها على درجة من الاغتراب والعزلة، إضافة إلى أنها بنيت على أسس اجتماعية وثقافية ونفسية غربية لا تتفق مع خصوصيات مجتمعاتنا العربية واحتياجات أفرادها، من هنا لا بد لنا -كتربويين، وحكومات، ومؤسسات عربية- أن نبني مناهجنا التربوية من صلب ثقافتنا العربية، ووفق معايير خاصة تأخذ بعين الاعتبار حركة الواقع وتطوره، وأهمها:
- بناء مناهج تربوية اعتماداً على حاجات التلاميذ ورغباتهم، وتراعي خصائص نموهم الجسمي والعاطفي والعقلي، وتتفق مع ميولهم واتجاهاتهم، وليست رغبات المستشارين والمختصين.
- بناء مناهج تربوية يشارك فيها المعلمون وأولياء الأمور ومؤسسات المجتمع المدني من نقابات، وجمعيات، وهيئات علمية متخصصة.
- مناهج تحاول ربط المواد النظرية بالتطبيقية العملية في الحياة، جاعلةً من البيئة المادية والاجتماعية مصدراً للتعلم.
- مناهج تراعي الفروق الفردية، تنطلق من حاجات المتعلم وقدراته، وتنظر إلية باعتباره عقلاً وجسداً وروحاً بحاجة إلى الرعاية والتطوير.
- منهاج توفر مساحة من الحرية للمعلم لاستخدام الأساليب والوسائل التعليمية والأنشطة، وتبتعد عن التلقين، ليتمكن من تحقيق الأهداف التربوية المبتغاة.
- مناهج تأخذ من الاشتراكية مبدأ في العمل، وتستوعب التغيرات الثقافية داخل المجتمع في الوقت الذي أصبح الانفتاح على الآخرين أمراً حتمياً في ظل تطور وسائل المواصلات والاتصالات.
- مناهج تربوية تبنى على سياسة تعزيز الوحدة الوطنية والهوية الإسلامية والانتماء الحقيقي لقضايا الأمة.
- تقويم دوري للمناهج التعليمية لمعرفة مدى مواكبتها لروح العصر.
البيئة المدرسية:
لا شك في أن البيئة المدرسية الجيدة تفضي إلى تعليم جيد يمكن من خلاله تحقيق الأهداف التربوية المرصودة، ولكن تبقى الأوضاع الاقتصادية والإمكانات المادية للدولة هي الكفيلة بتحقيق بيئة مدرسية متكاملة العناصر من حيث ساحات النشاط والمرافق وسعة الغرف الصفية، إضافة إلى المكتبات والمختبرات وأجهزة الكمبيوتر ووسائل الإيضاح والترفيه.
من الجدير ذكره هنا أن المدرسة العربية بشكل عام، تفتقر لتلك المقومات الرئيسة للبيئة المدرسية إذا ما قورنت بمثيلاتها في البيئات التعليمية الغربية، وذلك يعود لجملة أسباب أهمها:
- الزيادة المطردة في أعداد الطلاب المنتسبين للمدارس بسبب النمو السكاني السريع مقارنة مع الأعداد المحدودة لتلك المدارس، الأمر الذي أدى إلى وجود حالة من الاكتظاظ داخل الصفوف، ليصل العدد إلى أكثر من 50 طالباً في الغرفة الصفية الواحدة، هذا شكل حافزاً قوياً لبعض الطلبة للتسرب من المدارس والالتحاق بسوق العمل مبكراً دون حصولهم على الحد الأدنى من حقوق العمال. إن تلك الأزمة دعت الجهات المعنية لاستحداث دوام الفترتين الصباحية والمسائية، مع الإدراك التام لسيئات ذلك النظام، وبخاصة عامل الوقت المتاح لإعطاء الدروس وتطبيق الأنشطة المتعلقة بها، إضافة إلى حرمان الطلبة من الاستفادة من المرافق الحيوية في المدرسة، هذا من جهة، من جهة أخرى تفشت ظاهرة استئجار المدارس التي تفتقر إلى أبسط مقومات المدرسة، والملاعب، والتهوية الجيدة، والإضاءة المناسبة.
- تدني مستوى إنفاق الدولة من ناتجها القومي على التعليم والبحث العلمي، فقد أشار تقرير التنمية البشرية للعام 2002 إلى أن مستوى الإنفاق على البحث العلمي لا يتجاوز 002% من الناتج القومي الإجمالي مقابل ما يزيد على 2% بالنسبة لمعظم الدول الصناعية، وتتراوح النسبة بين 5.2 و5% من الناتج القومي.6 من هنا لا بد من إيجاد إستراتيجية تنموية شاملة تحقق توازناً بين جميع القطاعات، والعمل على قيام مراكز حرفية ومعاهد صناعات قومية تضمن للتعليم فاعليته وقدرته على دفع حركة التنمية العربية إلى الأمام.
نحو رؤية جديدة للمعلم في ظل العولمة:
لم يبالغ شوقي كثيراً حينما قال "كاد المعلم أن يكون رسولاً"؛ لإدراكه التام لحقيقة الرسالة الإنسانية المقدسة الملقاة على عاتقه والمكانة الاجتماعية التي حظي بها كمصلح ومرشد ومؤتمن على فلذات الأكباد. إن نجاح هذه الرسالة مرهون بقدرة المعلم على غرس التربية الأخلاقية والثقافية والعلمية في نفوس الناشئة، وتنمية أطرهم المعرفية والمهاراتية، الأمر الذي ينعكس أثره بشكل مباشر على المجتمع وعلى مكوناته المختلفة وصولاً لتطوره ولحاقه بركب الحضارة الإنسانية التي تعيش اليوم حالة المعقول واللامعقول معاً، الممكن وغير الممكن، المتمثلة في العولمة ونتاجاتها المعرفية والتكنولوجية، التي وضعت المعلم على مفترق طرق، فإما أن يكون معلماً منطوياً على نفسه متحوصلاً في شرنقة الماضي الكلاسيكي التقليدي، معتبراً أن وظيفته الأساسية نقل المعلومات وحشوها في أذهان الطلاب من خلال أساليب تلقينية قمعية وتسلطية، وهو مصدر المعرفة الوحيد، والطالب في وضعية المتلقي الخاضع لسلطته التنفيذية، نافياً بذلك دور الجدلية والحوار والندية في تنمية الشخصية وتعزيز استقلالها؛ وإما معلماً ثورياً متحرراً ومتجدداً ساعياً وراء تطوير ذاته، مستخدماً أساليب متعددة وأسلحة غير تقليدية من أجل رفع قدرات المتعلمين واستثارة دافعيتهم نحو القيادة في المجالات كافة، منطلقاً معهم لفضاء الحرية والبحث العلمي، مسايراً لعصر تنفجر فيه المعرفة العلمية والتكنولوجية، وهذا ما تنشده التربية الحديثة، معلماً ذا بصيرة نافذة قادرة على التفاعل مع معطيات عصر العولمة والثورة المعلوماتية، خلافاً للتربية التقليدية التي ساهمت في إنتاج جيل عبارة عن بنوك معلومات متنقلة. ولكن السؤال الذي يبحث عن صدى جواب هو ما مدى تطبيق هذه المعلومات في الحياة اليومية والعملية وقدرتها على حل ما يعترض حياته من مشكلات في ظل هذا العالم الديناميكي سريع التطور.
من هنا تدعو الحاجة إلى إعادة النظر في البنى المعرفية والهياكل التربوية، لاسيما المعلم، لزيادة وعيه الثقافي واستعادة دوره الريادي في المجتمع، إضافة إلى قدرته على توظيف تقنيات عصر العولمة في حياته اليومية والعملية، وإعداده لعالم لم يعد كما كان من أجل إنتاج جيل مبدع مبتكر للمعرفة العلمية يحقق نقلة حضارية نوعية وذلك من خلال:
- الإعداد الجيد والمستمر للمعلمين من أجل التفاعل مع التكنولوجيا وتقنياتها واستغلالهم لكم المعلومات الهائل المتدفق إليهم عبر الإنترنت والفضائيات لرفع مستوى العملية التربوية.
- عقد ورش عمل مكثفة للمعلمين تمكنهم من استخدام الحاسوب وتوظيفه في العملية التربوية.
- إدخال العولمة ومضامينها في المناهج التعليمية كي لا يعيش المعلم والطالب في حالة انفصام عن الواقع.
- استقطاب الفئات المميزة من المعلمين للعمل في ميدان التعليم، وتشجيعهم على الإبداع والابتكار.
- العمل على إيجاد قانون يحمي المعلمين ويصون كرامتهم، ويفرض احترامه على الطلبة، ويستعيد من خلاله دوره الريادي في المجتمع.
- مؤازرة المعلمين ورفع مستواهم المعيشي.
أضف تعليقاً