التدريس البنائي والتعلم

حظي فلاسفة وعلماء نفس القرن التاسع عشر والذين جاءوا من بعدهم في أوائل القرن العشرين بشرف تأسيس الحركة البنائية. البنائية هي نظرية تعلم تشكل جزء رئيس من البحث في المفاهيم الخاطئة (misconceptions) أو الأطر البديلة (alternative frameworks) لدى الطلاب.  وتستند النظرية على الاعتقاد أن المعرفة تبنى من قبل الدارسين كنتيجة لتفاعلاتهم مع العالم من حولهم في وسط أو قالب اجتماعي يتأثر بمعرفتهم وخبراتهم السابقة. "البنائيون يدركون دور التقبل (assimilation)، والتكيف (accommodation) واختلال التوازن (disequilibrium) ولكنهم يركزون بصورة أكبر على دور المعرفة المسبقة (prior knowledge) مقارنة بمؤيدين بياجية. ويوضح البنائيون أن البنى المعرفية السابقة تعمل كمصافي وميسر للأفكار والخبرات الجديدة وهي نفسها البنى المعرفية يمكنها أن تتحول (transformed) أثناء التعلم".



البنائية هي نظرية تعلم وليست أسلوب تدريس أو توجيه. يمكن أن يدرّس المدرسون بطرق تعرف "بالبنائية" عندما يكونوا مدركين لها ويدرسون بطريقة تتوافق مع كيفية تعلم الطلاب. تستلزم طرق التدريس المتوافقة مع كيفية التعلم استراتيجيات مختلفة عن تلك التي تتبع غالباً في الفصول الدراسية. والطريقة الوحيدة لكي يتعلم المدرسون كيفية التدريس بالطريقة البنائية هي أن يتعلموا بالطريقة البنائية.


ويأتي على غرار استراتيجيات التدريس البنائية الاعتقاد بأن الطلاب يشيدون أو يبنون معرفتهم بأنفسهم. وهذا ليس موقفاً جدلياً وأغلب المثقفين موافقون على فكرة البنائية. عندما يبدأ الطلاب وحتى الأطفال الصغار درس العلوم يكون لديهم أفكار مبدئية أولية لتفسير "الظاهرة" التي يلاحظونها.  وعليه عندما تقع الأحداث كما توقعها الطالب يتم تقبلها في بنائه المعرفي الموجود مسبقا، ولكن عندما تقع أحداث غير متوقعة يجب أن يتكيف الطلاب مع التناقض بإعادة بناء العلاقات في بنائهم المعرفي. يعرف التقبل (assimilation) عادةً بنمو المفاهيم (conceptual growth) بينما يعرف التكيف (accommodation) بتغيير المفاهيم (conceptual change).

 

ووفقاً لأبليتون (1993م) هناك أربعة مخرجات ممكنة عند مصادفة الطالب لظاهرة علمية جديدة. إذا كانت المعلومات الجديدة متوافقة مع الأفكار الموجودة لدى الطالب مسبقا نجد أن الطالب يتقبل هذه المعلومات الجديدة. وبهذه الطريقة فإن الأفكار الموجودة سيتم تدعيمها سواءً كانت هذه الأفكار صحيحة أو خاطئة، ولكن قد يجد الطالب أن المعلومات الجديدة غير متوافقة مع المعلومات الموجودة لديه، وفي هذه الحالة تحدث حالة نزاع عقلاني لدى الطالب. ويحدث واحد من النتائج الثلاث التالية، الأولى: يمكن أن يجد الطالب أن أفكاره الموجودة ليست مناسبة ويجب أن يعاد تركيبها أو تشكيلها. وبهذه الطريقة يجري الطالب عملية "التكيف" (accommodation) بتكوين شبكة معرفية جديدة لأفكاره. ثانياً: قد لا يقوم الطالب بإعادة بناء أفكاره الحالية، ولكن بدلاً من ذلك ينتظر الإجابة "الصحيحة" حيث تعود الطلاب أن ينتظروا ويتقبلوا من السلطة (النص في الكتاب أو المدرس أو أحد الوالدين) إعطائهم المعلومات الصحيحة، ويتم تذكر الإجابة الصحيحة واسترجاعها بسرعة في بيئة مشابه (كالمدرسة) ولكن ليس من المحتمل تذكرها والوصول إليها في بيئات أخرى. الإمكانية الأخيرة هي في حالة أن الطلاب يرون أن أفكارهم الموجودة غير فعالة ولكنهم يرفضون بذل الجهد للتكيف أو انتظار الإجابة الصحيحة. ربما كان لديهم الكثير من التجارب الفاشلة في العلوم لذا اختاروا ألا يتعلموا كبديل. التدريس والتعلم في بيئة بنائية تتطلبان أن يتخذ الطلاب والمدرسين أدوار مختلفة. وتحديدا تعتمد هذه الأدوار على نموذج محدد أو تفسير مرغوب للبنائية.

 

تم تحديد أوجه كثيرة للتدريس والتعلم كطرق بنائية. توضح هذه المراجعة الأدبية باختصار أربعة أوجه (أساليب): معالجة المعلومات (Information Processing)، البنائية الفعالة (Interactive-Constructivist)، البنائية الاجتماعية (Social Constructivist) والبنائية المتطرفة (Radical Constructivist). هذه الأربعة أوجه تتناسب مع المقياس المتصل لتفسيرات البنائية المرتكزة على تناقص دور المعلم وزيادة أو تفعيل دور المتعلم. كل تفسير ينظر إلى "البنائية" من خلال عدساته الخاصة.

 

البنائية الفعالة Interactive-Constructivist:

يدعي البنائيون الفعالون أن للتعلم مكونين: مكون خاص (private components) ومكون عام (public components) وهذه النظرة مشتركة عند الكثيرين منهم. تقترح هذه النظرة أن الطلاب يكونون معرفتهم ويتعلمون عندما يستطيعون التفاعل مع العالم الطبيعي والأشخاص من حولهم ـ وهذا هو المكون العام. ويتكون المعنى عندما يعلق (يعقب) الطلاب على تفاعلاتهم ويمنطقونها ـ وهذا هو المكون الخاص.

فقط عندما يكون لدى الطلاب الوقت للمرحلتين (المكونين) معاً المرحلة الخاصة (المكون الخاص) والمرحلة العامة (المكون العام) للتعلم يصبح بمقدورهم التوفيق بين أفكارهم السابقة وخبراتهم الجديدة. تتمتع البنائية الفعالة بالخصائص التالية:

  • التوافق بين المخرجات، والتدريس (التوجيه)، والمصادر والتقييم (التقدير).
  • مخرجات تغيير المفاهيم، نمو المفاهيم، واستراتيجيات التعلم ما وراء المعرفية (metacognitive strategic learning).
  • لا يستبعد التوجيه المباشر المتضمن في سياق طبيعي وفقا للحاجة.
  • يدعم الأفكار الكبيرة (big ideas)، الثقافة العلمية (science literacy) والعادات العقلية التي يحتاجها العقل لبلوغ المعرفة العلمية.
  • يتطلب قدرة الطلاب على: تكوين البنى المعرفية، التفكير النقدي، تواصل بنياتهم المعرفية وإقناع الآخرين بقيمتها أو فائدتها.
  • تشمل البحث الموجه (guided inquiry)، دورات التعلم (learning cycles)، تغيير المفاهيم (conceptual change)، والوسائل المنتجة (generative approaches).
  • التدريس يتضمن: التقدير (accessing)، والمشاركة (engaging)، التجريب (experiencing)/ الاكتشاف (exploring)، التبرير(justifying)/ المنطقية (rationalizing)، التماسك (consolidating)/ توحد القديم والجديد (integrating old and new)، وتطبيق المعرفة.

بينما يتدرج الطلاب خلال المراحل العقلية المتعددة يجب على المدرسين أن يستخدموا استراتيجيات معينة في فصول البنائية الفعالة الدراسية. تشمل المراحل المقترحة: إيجاد ما يعرفه الطلاب مسبقاً عن الموضوع تحت البحث، يضع أهداف معرفية/ سلوكية محددة للمتعلمين، فهم كيفية تدرج الطلاب خلال المراحل المتعددة، إشراك الطلاب في الخبرات المتعددة التي تتحدى أفكارهم، تمنح الطلاب الوقت لتجربة الظاهرة من عدة أوجه، تطبيق الأفكار الجديدة، التعليق (التعقيب) على التعلم (reflection on learning).

 

لا يتخذ المدرس الدور التقليدي -دور الخبير -ويلقن الطلاب ما يحتاجون معرفته. بدلاً من ذلك يعمل المدرس كدليل أو ميسِّر للتعلم. مقارنة صراف البنك مع حراثة الأرض توضح الاختلاف بين الطريقة التقليدية للتدريس والطريقة البنائية الفعالة. نموذج صراف البنك (bank teller) يوضح كيف يعطي المدرس التقليدي المعلومات للطلاب. نموذج الفلاح -حراثة الأرض-(farmer tilling) تمثل طريقة البنائية الفعالة.  فالمدرسون الذين يحرثون بدلاً من أن يقولوا (يعطوا) يتأكدوا أن عقول الطلاب جاهزة لبذور المعرفة التي سوف تزرع، ويقومون بتخصيب عقول طلابهم من خلال الأنشطة والخبرات التي يقدمونها. ولكن النمو الفعلي وتكوين المعنى يراجع في النهاية للطالب. يسأل المدرس الأسئلة ليتحقق بدقة عن مدى فهم الطلاب ويتحدى أفكارهم. الطلاب لديهم أفكار مختلفة بحاجة إلى اختبار وهذا يشكل مجموعات متعددة تقوم بتجربة أشياء مختلفة. وبرغم أن المدرس يشجع الطلاب للمضي في تحقيق الهدف ويشغلهم بأنشطة إلا أن الطلاب هم الذين يناضلوا ويعيدوا التفكير في المعلومات الحسية التي تأتي من التجارب، الصور، والمواد المطبوعة، والنقاشات لتكوين المعنى. ولا يمكن للمدرس أن يعطي المعنى للطالب نتيجةً لاحتمال حدوث فروق في الفهم بين الأفراد في نفس المجموعة أو مجتمع الطلبة.

 

الطلاب في فصول البنائية الفعالة يدركون سيطرة المعلم في توجيه الفصل وبرغم أن أفكارهم الأولية عن الموضوع الذي يقدم تشكل نقطة الانطلاق للتدريس (التوجيه) إلا أن الأفكار المنبثقة والفهم العلمي هو الذي يقود الدروس. تحافظ استراتيجيات التدريس المستخدمة داخل الفصل في المحافظة على مركزية أفكار الطلاب وأصواتهم. يصقل مدرس البنائية الفعالة المعرفة من خلال مساعدة الطلاب على تكوين المعنى بأنفسهم بدلاً من إخبارهم عما يريدون معرفته.  يقوم المدرس بتحفيز وتوجيه النقاشات العامة لتوضيح الأفكار ودعم المفاوضات الخاصة للتأكيد على تكامل الأفكار داخل شبكة المفاهيم الطلابية. يحث المدرس ويشجع تكوين المعنى لدى الطلاب في الذاكرة القصيرة المدى وتخزين المعرفة في الذاكرة طويلة المدى باستخدام استراتيجيات بنائية متكاملة.

 

لورا انريكوس: جامعة ولاية كاليفورنيا، لونج بيتش

المصدر: ملف محمل من موقع هيئة التدريس بجامعة الملك سعود. التدريس البنائي والتعلم