يتطلب تحقيق هذه الأهداف تطبيق الإصغاء العميق، وهو تقنية تواصل أثبتت فعاليتها في تحسين تجربة الكوتشينغ، وغالباً ما يُطلَق عليه اصطلاحاً "الإصغاء الفعال"، غير أنَّ هذه التسمية، تركز على الممارسات العملية أكثر من عقلية المستمع، ومبادئه، ومواقفه.
يبحث المقال في مفهوم الإصغاء العميق، وتأثير المدارس الفكرية، مثل علم النفس الإنساني في مبادئه وتقنياته التي تبرز أهمية الاستماع إلى كلام الآخرين بانتباه واهتمام صادق.
تقول المؤلفة "رالف جي. نيكولز" (Ralph G. Nichols): "إنَّ أبسط احتياجات الإنسان إطلاقاً، هو الحاجة إلى أن يفهم ويُفهَم، وأفضل وسيلة لفهم الناس هي الإصغاء إليهم."
مفهوم الإصغاء العميق
لا يقتصر الإصغاء العميق على سماع الكلمات المنطوقة؛ بل هو عملية تفاعلية متكاملة تقوم على التعاطف، وتشمل عناصر لفظية وغير لفظية في آنٍ معاً.
تبرِز الإشارات غير اللفظية، مثل التواصل البصري والإيماء بالرأس الانتباه والفهم، بينما تُبدي الردود اللفظية الدقيقة الموافقة على أفكار العميل ومشاعره، والتعاطف معه.
يقتصر الاستماع العابر أو السلبي على الإصغاء إلى كلام العميل دون بذل أي مجهود لفهم المعنى الذي يرمي إليه أو إبداء التعاطف تجاهه.
لا يقتصر الإصغاء العميق على تطبيق حركات معيَّنة، مثل إيماء الرأس؛ بل هو حالة ذهنية تتطلب تركيز الانتباه على كلام العميل وإقصاء المعتقدات والافتراضات المسبقة.
أهمية الإصغاء العميق في الكوتشينغ
يطمئن متلقِّي الكوتشينغ ويدرك أنَّك تقدِّر مشاعره وتتفهم ظروفه عندما تصغي إلى كلامه باهتمام وتمعُّن، ولا تقتصر فوائد هذه التجربة على الجانب النفسي فقط؛ بل إنَّها تسهم أيضاً في النمو الشخصي وتقوِّي العلاقة بين الكوتش والمتلقي.
الأثر النفسي للإصغاء العميق
يوفر الإصغاء العميق من المنظور النفسي الأمان والطمأنينة اللازمة للتعبير عن الأفكار والمشاعر بأريحية، وهو يساعد الأفراد على ضبط انفعالاتهم، وفهم أنفسهم، وترسيخ إحساسهم بالقيمة الذاتية.
يولي علم النفس الإنساني أهمية بالغة لحاجة الفرد إلى التحدث أمام شخص يصغي إليه باهتمام وتمعُّن، فقد دعا عالم النفس "كارل روجرز" (Carl Rogers) في منهجه الذي يركز على الفرد إلى اعتماد التعاطف، والتقدير الإيجابي غير المشروط، والصدق بوصفها شروطاً أساسية للعلاج النفسي الفعال وتطوير الذات، بالتالي من البديهي أن يُعَد الإصغاء العميق من أبرز عناصر القبول والتقدير الإيجابي غير المشروط.
تؤكد النظريات المعرفية السلوكية أنَّ الإصغاء العميق، يحفز التأمل الذاتي والتغيرات المعرفية، وهو ما يحدِث نقلة نوعية في تجربة الفرد، فعندما ينصت الكوتش بتمعُّن، يساعد المتلقي على كشف المعتقدات وأنماط التفكير التي تعوق تقدُّمه أو تُقيِّد إمكاناته.
تفيد هذه العملية في تحسين وجهات النظر، وطريقة التفكير، والسلوكات بما يخدم الأهداف ويتوافق مع القِيَم الشخصية.
فوائد الإصغاء العميق
يعزز الإصغاء العميق إحساس الطمأنينة والسلام الداخلي، وينمِّي القدرة على التأمل الباطني، ويفهم القِيَم والأهداف الشخصية، ويرتبط بالعالم الخارجي.
يدرك المتلقي أنَّ الكوتش يفهم أفكاره ومشاعره، ويقدِّر ظروفه، ويتقبله عندما يصغي إليه باهتمام صادق، وهو ما يساعده على اكتشاف أهدافه وقِيَمه، وتحقيق التنمية الشخصية.
دور الإصغاء العميق في علاقة الكوتشينغ
يُعَد الإصغاء العميق أساس نجاح علاقة الكوتشينغ؛ لأنَّه يبرز احترام الكوتش، وتعاطفه، واهتمامه الصادق بتجارب العميل، ويوفر بيئة آمنة وداعمة خلال الجلسات، مما يؤدي بدوره إلى تعزيز الثقة والألفة، واقتناع العميل بأنَّ الكوتش يتفهَّم أفكاره ومشاعره ويقدِّر صعوبتها.
يعزز الإصغاء العميق اندماج العميل، والتزامه، وانفتاحه، وتعاونه مع الكوتش، مما يحسن نتائج تجربة الكوتشينغ، ويزيد هذا التعاون فعالية الجلسات، ويحسن جودة النتائج ورضى العميل عن التجربة.
العلاقة بين الحضور الذهني والإصغاء العميق
يعتمد التواصل الفعال على كلٍّ من الحضور الذهني والإصغاء العميق في إطار علاقة الكوتشينغ، فهذان المفهومان متلازمان، ويعزز كلٌّ منهما الآخر، كما يحسِّنان جودة التواصل، والتفاهم، والنمو.
الحضور الذهني في إطار علاقة الكوتشينغ
يشير مصطلح "الحضور" في إطار علاقة الكوتشينغ إلى حالة الانتباه التام ذهنياً وعاطفياً للحظة الراهنة، ويتطلب التركيز الكامل على كلام العميل وإقصاء الأفكار الشخصية، والأحكام المسبقة، والمشتتات في البيئة المحيطة.
يعزز هذا الحضور يقظة الكوتش، وانتباهه، وقدرته على استيعاب المقصود من كلام العميل، وهو ما يوفر الأمان والراحة التي يحتاج إليها العميل لمشاركة أفكاره ومشاعره بحرية.
العلاقة بين الإصغاء والحضور الذهني
تقول المؤلفة "كريستا تيبيت" (Krista Tippett): "الإنصات الحقيقي هو أن تكون حاضراً بكل كيانك، لا أن تكتفي بالصمت فحسب".
الحضور الذهني والإصغاء مفهومان مختلفان، ولكنَّ كلٌّ منهما يعزز الآخر، فالحضور شرط أساسي للإصغاء الفعال؛ لأنَّه يمكِّن الكوتش من التركيز التام على كلام العميل، والإشارات غير اللفظية التي تصدر عنه، دون الانشغال بأفكاره المخصصة والمشتتات الخارجية، بالتالي ينمِّي هذا الانتباه التام قدرة الكوتش على التقاط التفاصيل الدقيقة، وفهم تجارب العميل ومشاعره، وإبداء التعاطف في الرد على كلامه.
ينمِّي الإصغاء الفعال القدرة على الحضور الذهني؛ لأنَّه يتطلب الانتباه على كلام العميل، وعواطفه، والمعتقدات الكامنة في عقله الباطن، مما يعزز تركيز الكوتش على اللحظة الراهنة، بدل أن يشغل تفكيره بهمومه ووجهات نظره الشخصية؛ أي باختصار، يعزز كلٌّ من هذين المفهومين الآخر، ويحسن اجتماعهما تجربة الكوتشينغ، ويعزز التفاهم، والاحترام المتبادل بين الكوتش والعميل.
تقنيات الإصغاء العميق
يقول المؤلف "فرانسوا دو لاروشفوكو" (François de La Rochefoucauld): "يتطلب إتقان فن الحوار أن تنصت بتمعُّن وتجيب بحكمة."
فيما يأتي 5 تقنيات أساسية للإصغاء العميق:
- الحضور الذهني الكامل: يعزز الحضور الذهني الانتباه خلال جلسات الكوتشينغ.
- تكرار الكلام وصياغته: يطمئن العميل ويعرف أنَّ الكوتش فَهِمَ أفكاره بدقة عندما يكررها أو يُصيغها أمامه.
- الأسئلة المفتوحة: تحلل الأسئلة المفتوحة وجهات النظر وتكتشف أفكاراً جديدة.
- التلخيص وجمع المعلومات: يقدِّم التلخيص وجمع المعلومات وجهات نظر جديدة، ويبرز فهم الكوتش للمعنى الذي يرمي إليه العميل بكلامه.
- الإيماءات البسيطة: مثل الإيماء بالرأس، والإشارات اللفظية، وتشجيع العميل على متابعة الحديث.
تبرِز هذه التقنيات اهتمام الكوتش، ورغبته بفهم مشكلة العميل، وتساعده على إتقان مهارات الإصغاء العميق.
معوقات الإصغاء الفعال في الكوتشينغ
توجد مجموعة من العوامل التي تضعف قدرة الكوتش على الإصغاء الفعال لعملائه، وهي تُصنَّف إلى معوقات داخلية وخارجية، ويستلزم كلٌّ منها التحلي بالوعي اللازم لإدراكها وضبطها حتى لا تؤثر في جودة نتائج الجلسة.
المعوِّقات الداخلية
تنجم هذه المعوقات عن أفكار الكوتش، وعواطفه، والتحيزات المترسخة في عقله الباطن، وهي تمنعه من تفسير كلام المتلقي وفهم المقصود منه، وتؤدي إلى استنتاجات وأحكام خاطئة.
يُسقِط الكوتش معتقداته أو تجاربه الشخصية على العميل، مما يحدُّ من قدرته على فهم وجهات نظره، ويعوق استمرارية الإصغاء العميق.
تشمل العوائق الداخلية أيضاً ضعف التركيز وشرود الذهن، نتيجة انشغال بال الكوتش بهموم شخصية أو تساؤلات معيَّنة، مما يضعف قدرته على الاندماج الكامل في محادثة الكوتشينغ.
تُضعِف الانفعالات العاطفية قدرة الكوتش على إصدار أحكام حيادية والإصغاء إلى كلام العميل بموضوعية.
المعوِّقات الخارجية
تشمل المعوِّقات الخارجية في جلسات الكوتشينغ التي تجري على أرض الواقع الضجيج في المحيط، أو المقاطعات المتكررة، أو الأجواء المزعجة التي تشتت انتباه الكوتش والعميل، كما يعوق ضعف الاتصال بالإنترنت جودة الكوتشينغ في الجلسات الافتراضية.
التغلب على معوِّقات الإصغاء الفعال
يتطلب التغلب على هذه التحديات التركيز على 3 أركان، وهي الوعي الذاتي، واليقظة الذهنية، والتطوير المستمر للمهارات؛ إذ يتعيَّن على الكوتش بدايةً أن يدرك تحيزاته وافتراضاته المسبقة، وينبذها حتى لا تؤثر في فهمه لتجارب العميل، كما تعزز ممارسات اليقظة الذهنية التركيز والانتباه، وتنمي قدرة الكوتش على فهم الكلمات، والإشارات غير اللفظية، والتقلبات العاطفية للعميل.
وفيما يخص المعوِّقات الخارجية، يجب أن يهيِّئ الكوتش بيئة خالية من المشتتات والمقاطعات، ففي الجلسات الافتراضية مثلاً، يجب استخدام تقنيات موثوقة واختيار مكان هادئ لتعزيز جودة التواصل.
في الختام
يعد الإصغاء العميق ضرورياً لنجاح الكوتشينغ، وقد أثبتت نظريات علم النفس فعاليته في بناء الثقة، وحل المشكلات، وتمكين العميل من اكتشاف ذاته؛ لهذا السبب يجب أن يطبِّق الكوتش تقنيات الإصغاء العميق خلال الجلسات ويستفيد منه في تمكين العميل من تطوير نفسه وتحسين حياته.
أضف تعليقاً