الإبداع من أبرز أهداف التخطيط التربوي الهادف

محمود طافش

يلقي المعنى اللغوي للإبداع بأضواء كاشفة على الغرض الذي ندرِّب أبناءنا على الإبداع من أجله وهو: "الإنشاء والاستنباط" يقال أبدع الرجل شيئاً أي اخترعه. فالإبداع هو: "ابتكار الشيء على غير مثال سابق" وتُعَرّف الموسوعة الفلسفيَّة العربية" الإبداع كذلك بأنه: (إنتاج شيء جديد، أو صياغة عناصر موجودة بصورة جديدة في أحد المجالات كالعلوم والفنون والآداب). وأما في الموسوعة البريطانية الجديدة فإن الإبداع هو: (القدرة على إيجاد شيء جديد، كحل لمشكلة ما، أو أداة جديدة، أو أثر فني أو أسلوب جديد).

ويلاحظ الباحث والقارئ من خلال هذه المفاهيم الثلاثة أن الإتيان بشيء جديد هو القاسم المشترك بين هذه التعريفات. وفي التجديد استمرارية الحياة وتطورها وازدهارها، ومن هنا كان اهتمام المخططين التربويين للمناهج الدراسيَّة المعاصرة بالإبداع.



وقد تباينت آراء العلماء حول مفهوم الإبداع فبعضهم يقصد بالإبداع القدرة (Ability) على بناء شيء جديد أو مبتكر تماما وإخراجه إلى حيز الوجود. بينما يقصد بعضهم الآخر العمليات (process) وخصوصا السيكولوجية منها، والتي يتم بها ابتكار الشيء الجديد ذي القيمة العالية، في حين ينظر فريق ثالث إلى الإبداع في حدود العمل الإبداعي ذاته، أو المحصلة أو الناتج الذي ينشأ عن القدرة على الإبداع وعن العملية الإبداعيِّة التي تؤدي في آخر الأمر إلى إنجاز العمل الإبداعي وتحقيقه) (جامعة القدس، 1997) وهذا المفهوم الثالث هو الذي نميل إليه مع عدم تجاهلنا للمفهومين الآخرين إذ إن العمل الإبداعي ينجم عن قدرات وعمليات تؤدي إلى إنجازه.

وهناك العديد من التعريفات الاصطلاحية لمفهوم الإبداع، وقد توقفت عند تعريف "ولك"
(Wallach) الذي ينص على أن الإبداع هو: "التميُّز في العمل أو الإنجاز بصورة تشكل إضافة إلى الحدود المعروفة في ميدان معين"، ويستفاد من التعريفات الأخرى أن الإبداع هو: المحصلة الناتجة عن القدرة على التنبؤ بالصعوبات والمشكلات التي قد تطرأ في أثناء التعامل وقضايا الحياة، وإيجاد حلول لها ومخارج منها باعتماد أساليب علميَّة تستند على أفكار عميقة مبتكرة، يتمخض عنها اكتشـافات جديدة وأعمال مميزة، تحدث تطوراً وتحسناً في المجتمع. وهو مِنْ ثُمَّ قدرات ومواصفات خاصة تمكن الإنسان المبدع من الاستفادة من المعطيات العلميَّة المعروفة لإحداث إضافات جديدة أو ابتكارات نافعة بنّاءة تساهم في تسهيل الحياة وجعلها أكثر إمتاعاً ولا يمكن أن يكون الإنسان مبدعاً إلا إذا كان قادراً على التفكير الإبداعي بامتلاكه (القدرة على اكتشاف علاقات جديدة أو حلول أصيلة تتسم بالجدة والمرونة)، (سماحة وآخرون، 1992) وهكذا فإن المربي المتمكن من ناصية التفكير الإبداعي هو: (القادر على إنتاج عدد من الأفكار الأصيلة، ودرجة عالية من المرونة في الاستجابة، وتطوير الأفكار والأنشطة والابتكار لدى معظم الطلبـة بدرجـات متفاوتة وتكون نتائجه خلاقة، وليست روتينيَّة أو نمطية).

(وهبة، 1991) والقدرة على التفكير الإبداعي من الأهداف الرئيسة التي تسعى القيادات التربويَّة الواعية إلى بلوغها. فماذا نعني بالتفكير الإبداعي؟ وكيف يمكن أن نساعد المُتعلِّمين على الوصول إليه؟

 

 التفكير الإبداعي:

هو نمط مُتقدِّم من التفكير يتوصل إليه المُتعلِّم بعد تدريب مكثف على أنماط التفكير العلمي الأخرى، ويمكنه من التكيُّف مع أحوال المجتمع الطارئة، والتعامل وقضايا الحياة بوسائل مبتكرة. لذلك فهو يعد من المهام الوطنيَّة التي تسعى المُؤسَّسات التربويَّة إلى إنجازها، وذلك لأن التفكير الإبداعي يساعد المُتعلِّمين على تنمية قدراتهم على إدراك ما تلتقطه أسماعهم وما يقع تحت أبصارهم بيسر والتعامل معه بسهولة، كما أنه ينمي قدراتهم العقليَّة على التخطيط والتنفيذ بنشاط وحيويَّة، وعلى معالجة المواقف الطارئة بأساليب متنوعة، مما يمكنهم من خدمة مجتمعاتهم وإيجاد حلول لمشاكلها بأساليب ووسائل علميَّة مُتطوِّرة.


والتفكير الإبداعي:

"عملية عقليَّة تمتاز بالشموليَّة والتعقيد. وتنطوي على عوامل معرفيَّة وانفعاليَّة وأخلاقيَّة متداخلة تشكل حالة ذهنيَّة نشطة وفريدة، وهو سلوك هادف لا يحدث في فراغ أو في معزل عن محتوى معرفي ذي قيمة، لأن غايته تتلخص في إيجاد حلول أصيلة لمشكلات قائمة في أحد حقول المعرفة أو الحياة الإنسانيَّة. وهو من ثَمَّ تفكير متشعب أصيل عادة ما يتحدى ويخترق مبادئ موجودة ومألوفة ومقبولة" (العزة، 2000) وهو الأسلوب الذي يستخدمه الفرد في إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكـار حول المشكلـة التي يتعرَّض لهـا (الطلاقة الفكريَّة) وتتصف هذه الأفكار بالتنوُّع، والاختلاف (المرونة) وعدم التكرار أو الشيوع (الأصالة).

ويرى نوول وزملاؤه (Newell) أن التفكير الإبداعي هو "التفكير الذي يتسم بعدم التقليد، وتتسم نواتجه بالجدة والقيمة لدى كل من الشخص المُفكِّر والثقافة التي ينتسب إليها، وتدفع المُفكِّر إليه دافعيَّة قوية ومثابرة عالية، ويتضمَّن المهام التي يقوم بها الفرد بسعيه إلى صياغة واضحة لمشكلة غامضة وغير مُحدَّدة في البداية" (وهبة، 1991) ولا يحول قوله عدم التقليد دون الاطلاع على الأفكار السابقة، وإنما يدرسها ويمحصها وينتقدها، فإن أتى بشيء جديد يختلف عنها فإنه يكون قد أبدع.

 وتعرفه نايفه قطامي (2001) بأنه: "نشاط ذهني أو عملية تقود إنتاجا يتصف بالجدة والأصالة والقيمة في المجتمع. ويتضمَّن إيجاد حلول جديدة للأفكار والمشكلات والمناهج.

كما يعرفه فتحي جروان (2002) بأنه " نشاط عقلي مركب وهادف توجهه رغبة قوية في البحث عن حلول أو التوصُّل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة سابقا".

يستفاد مما سبق أن التفكير الإبداعي هو تفكير متجدد قائم على أسس علميَّة، ويتغذى من منهاج مدروس ومتكامل، وينمو بالجد والاجتهاد وسعة الاطلاع، ويثمر أفكاراً نافعة، ويترتَّب عليه تغيرات مرغوب فيها سلوكاً وفي طرائق التفكير، وهو غاية ما تصبو إليه التربية البناءة، لأنه تفكير منتج ناجم عن رغبة ملحة في التوصُّل إلى حلول مرضيَّة لمشكلات المجتمع الحادثة والمتوقعة.

ويرى بعض الباحثين أمثال (أوسبورن Osborn، وجوردن Jordan، وفريمان Freeman ووالس Wallas) أن عملية التفكير الإبداعي تتم خلال أربع مراحل متتالية هي:

مرحلة التحضير أو الإعداد (Preparation)

وهي الخلفية الشاملة والمتعمقة في الموضوع الذي يبـدع فيه الفرد، وفسرها (جوردن Jordan) بأنها مرحلة الإعداد المعرفي والتفاعل معه. وفي هذه المرحلة يصبح المُتعلِّم مهيئاً للتعامل مع المسألة المراد التعامل وإيّاها، وذلك باستحضار ما لديه من معلومات وخبرات، وبالقراءة الواعية والمُنظَّمة، وبطرح أسئلة على الأشخاص الذين لديهم تجارب مماثلة، ومن تنظيمها لتوظيفها في فهم الموضوع المطروح وتحليله إلى عناصره لاستنباط أفكار جديدة منه.

 

مرحلة الاحتضان (Incubation)

وهي فترة زمنيَّة يحتاج إليها المُتعلِّم ليُعمل فيها فكره لتنقية المعلومات والخبرات المتوافرة لديه من الحشو الذي قد يؤخر الوصول إلى الحل المنشود، وتعتري المُتعلِّم فيها حالة من القلق والخوف اللاشعوري من القيام بالعمل والبحث عن الحلول، وهي أصعب مراحل التفكير الإبداعي.

 

مرحلة الإشراق (Illumination)

وهي لحظة مخاض الفكرة حيث يومض الحل، وتولد الفكرة الجديدة في ذهن المُتعلِّم، وتنكشف الحجب، وقد شبه روشكا (1989) الإشراق بعملية البحث عن اسم منسي ثم تلتقطه الذاكرة. أوهي الحالة التي تحدث عندها الومضة أو الشرارة التي تؤدي إلى فكرة الحل والخروج من المأزق. وهذه الحالة لا يمكن تحديدها مُسبَقا فهي تحدث في وقت ما، وفي مكان ما، وربما تؤدّي الظروف المكانية والزمانية والبيئة المحيطة دورا في تحريك هذه الحالة، وقد وُصفت بأنها لحظة الإلهام.

 

مرحلة التحقيق Verification

وهي مرحلة الحصول على النتائج الأصيلة المفيدة والمرضيَّة، وفيها يقوم المُتعلِّم باختبار الحل الذي توصل إليه ليتأكَّد من صلاحيته ودقته.

ويرى (تايلور Taylor) أن التفكير الإبداعي يختلف من شخص إلى آخر في العمق، ويحدد

خمسة مستويات للتفكير الإبداعي هي:

  1. مستوى الإبداعيِّة التعبيرية، وهذا المستوى ترتكز عليه المستويات الآتية ويتمثل في الرسوم التلقائية للأطفال.
  2. مستوى الإبداع الإنتاجي، حيث يظهر الميل إلى تحسين أسـلوب الأداء في ظل قواعد مُحدَّدة.
  3. مستوى الإبداع الاختراعي، وأهم خصائصه الاختراع والاكتشاف.
  4. مستوى الإبداع التجديدي، ويتطلَّب تعديلا في المبادئ العامة التي تحكم ميدانا في العلم أو الأدب أو الفن.
  5. مستوى الإبداعيِّة المنبثقة، ويتطلَّب هذا النوع فكرا أصيلا وتنوعا في الأفكار المطروحة.

 

خطوات العملية الإبداعيِّة:

يستخدم التفكير الإبداعي لتوليد الأفكار الواقعيَّة التي تستخدم في التعامل ومشكلات الحياة، ولابتكار أدوات تجعل هذه الحياة أكثر سهولة ورفاهية، وتتم العملية الإبداعيِّة عبر خمس خطوات هي:

  • المثير (Stimulus)
    ويكون على هيئة سؤال يطرحه المُتعلِّم على نفسه عند تعرّضه لمشكلة ما، أو يلقيه عليه مُعلِّمه أو أحد والديه بطريقة تستفز تفكيره.
  • الاستكشاف (Exploration)
    ويعنى البحث عن بدائل أو حلول جديدة قبل اتخاذ قرارات تتعلق بقضية مطروحة على بساط البحث ، ويكون باستغلال الوقت الكافي لجمع أفكار كثيرة من خلال التجريب أو بالتشاور مع الآخرين .
  • التخطيط (Planning)
    وهو وسيلة فعَّالة في الوصول إلى الهدف، ويتم على خطوات هي: تحديد المشكلة، وجمع المعلومات حولها، ثم تحليلها لتشكيل وعي الباحث للعملية التفكيرية.
  • النشاط (Activity)
    وهو تحويل الفكرة المتولدة إلى عمل لتجريبها والتأكد من صلاحيتها أو البحث عن بديل لها.
  • المراجعة (Review)
    والمقصود بها تقويم الفكرة للتعرُّف على مدى الجهد المبذول، والنجاح الذي تحقق، ومن ثم العمل على تحسينه للوصول إلى الغاية المنشودة.

ويستفاد من الدراسات النفسيَّة والتربويَّة الحديثة أن لدى الكائن البشري إمكانات عقليَّة هائلة إذا تَمَّ استثمارها استثماراً علمياً فإنها ستحقق المعجزات. وحيث إنَ القوى البشريَّة هي صانعة التقدُّم والتنمية، فإن تعهدها بالرعاية والتربية يّعدَ من أولويات المجتمع الذي هو في حاجة ماسّة للعناصر المبدعة.

ويعدَ الإبداع من أبرز أهداف التخطيط التربوي الهادف إلى إيجاد العناصر القادرة على قيادة الناس لتحقيق أعلى معدلات النمو الممكنة. "والأمم لا تتقدم بالعدد الكبير من المُتعلِّمين فيها فحسب، بل وبنوعيَّة المُتعلِّمين وبوجود المُتفوِّقين والموهوبين الذين تستغل الأمة كل طاقاتهم التي تمتاز بالابتكار، وما تستطيعه قدراتهم واستعداداتهم الفذَة. فعلى هذه الفئة يتوقف تقدم المجتمع ورقيَه".

والطلاب المبدعون هم رصيد الأمة الحضاري، وأبرز عوامل تقدمها وازدهارها في شتى مجالات الحياة لاستثمار وتنمية الثروات الوطنيَّة، مع الأخذ في الحسبان أن هذا الاستثمار لا يتمَ بصورة مثمرة إلا بالفكر المستنير القادر على التخطيط الدقيق والتنفيذ الأمين. والمبدعون هم الأقدر على قيادة العناصر البشريَّة، لتحقيق التقدُّم والوصول إلى مرحلة الازدهار بعد التصدي للمعوقات وحل كافة المشكلات، لذلك فإن الأمم الناهضة تعمل ومنذ عقود على تأهيلهم لخدمة أوطانهم فهل نفعل؟