اتجاهات التفكير

فحين يتنبه شخص ما ليواجه خطراً يتعرَّض له فإنه في اللحظة نفسها يفكر في كيفيَّة درء هذا الخطر، وسواء كان الرد إقداماً أم هروباً فإن هذا السلوك يكون وليد التربية التي تربى عليها، ووليد تأثّره بالخبرات التي اكتسبها من بيئته في أثناء تفاعله مع الظروف المحيطة به.



محمود طافش

تباينت وجهات نظر العلماء السلوكيين والمعرفيين حول عملية التفكير، واعتمد العلماء السلوكيون على الأسلوب العلمي في محاولاتهم المُتعدِّدة لتحليل وفهم السلوك الإنساني متجاهلين العمليات التي تحدث داخل مخ الإنسان عندما يفكر، واستعاضوا عن ذلك بدراسة ردود الفعل التي تصدر عن الشخص المُفكِّر، ولذلك فقد أخفقوا في تفسير دواعي التفكير وعملياته تفسيراً علمياً دقيقاً. وحيث أنّ عملية التفكير "الذي هو في نظرهم حديث المرء لنفسه" محكومة بالخبرات التي يختزنها الإنسان مواجهاً لها في بيئته المحليَّة التي يتفاعل معها، فإنّه يمكن عدُّ التفكير سلوكا حين يكون بمنزلة رد فعل للمثيرات التي تواجه الشخص المستجيب. وسواءٌ كان هذا السلوك فعلاً أم قولاً، خارجياً يمكن ملاحظته أو سماعه، أم داخلياً يُستدل عليه من آثاره، فإنّه يكون بمنزلة الدليل على وقوع فعل التفكير.

 

فحين يتنبه شخص ما ليواجه خطراً يتعرَّض له فإنه في اللحظة نفسها يفكر في كيفيَّة درء هذا الخطر، وسواء كان الرد إقداماً أم هروباً فإن هذا السلوك يكون وليد التربية التي تربى عليها، ووليد تأثّره بالخبرات التي اكتسبها من بيئته في أثناء تفاعله مع الظروف المحيطة به. وفي البداية يكون رد فعل الطفل آلياً فطرياً، ولد معه ليعينه على البقاء، لكنه يظل خبرة لديه يوظفها في حماية نفسه، وهكذا فإنّ التفكير يقود سلوكاً، والسلوك يولد فكراً.

 

فإذا أراد مُعلِّم أن يعلم طفلاً، فإنّه يخطط ليجعله يمر في خبرات مُحدَّدة، ولكن ليس هناك ضرورة ليحرق إصبعه من أجل أن يجعله يدرك أن النار تحرق، والطفل حين يُؤتى به إلى الروضة أو إلى المدرسة فإنّه يكون متأثراً بعادات بيئته وبثقافة والديه، ولهذا فإنّ اختلاف الخبرات يُصعّب أو يُسهّل عمل المُعلِّم، فالأطفال الذين نشؤوا في بيئات غنية بالخبرات يكون تعليمهم أكثر سهولة من أولئك الذين تربوا في بيئات فقيرة محدودة الخبرات، وكذلك تكون استجاباتهم للتعلُّم أفضل، فإنّ الاستجابات ترتبط بالمثيرات، ومن هنا يبرز أثر الوسائل المعينة المُتطوِّرة في التدريس.


وعمليات التفكير تبدأ لدى الأطفال آلية، ثم تتطور لتصبح واعية، وهذا التطوُّر يتناسب طردياً مع المثيرات التي يتعرَّض لها الطفل من أجل أن تكسبه خبرات. وهكذا فإنّ التقنيات الحديثة يكون أثرها أوسع وأعمق وأبقى أثراً من الوسائل المعينة التقليديَّة، لكن لا مناص لمُعلِّمة أطفال الروضة من أن تبدأ عملية تعليمهم بتوظيف آليات التفكير الاشتراطي كآليات التكرار والتعميم والتمييز قبل البدء بتعليمهم عمليات التفكير الترابطي، مع ملاحظة أنّ التفكير الآلي قد يكون تفكيرا ترابطياً، فالطفل لا يستطيع في البداية أن يميز بين التمرة والجمرة، ولكنه بعد أن يتذوق حلاوة الأولى ولذعة الثانية، فإنّه سيميّز بينهما بعد أن يربط بين التمرة والطعم الحلو وبين الجمرة والألم.

 

ويستطيع الأطفال الربط بين المثيرات التي تصادفهم في أثناء تفاعلهم مع بيئتهم فيصيبون ويخطئون، ويتكوَّن لديهم روابط تساعدهم على تسيير شؤون حياتهم، فيتعلَّمون من أخطائهم، ويستفيدون من أفعالهم الصائبة في حل مشكلاتهم بما تكون لديهم من تفكير ترابطي، ويوظفون هذه الروابط في التعامل ومسائل مماثلة بطريقة منطقية، وإذا جرى تطويرها فإنها ستقود إلى الإبداع.


غير أنّ علماء النفس المعرفيين يرون أنّ التعلُّم يحصل لدى الإنسان عندما يوظف أدوات التفكير المتوافرة لديه لفهم طبيعة الأشياء المحيطة به، وأنّ هذا الفهم يختلف من شخص إلى آخر باختلاف المعتقدات وما يصاحبها من مشاعر وآراء ونتائج يمكن أن تترتَّب على هذه المعتقدات. وينمو التعلُّم لدى المُتعلِّم حين يبادر إلى تجميع وتنظيم المعلومات والخبرات المتوافرة لديه لتوظيفها في التعامل والمشكلات والصعوبات التي تواجهه في حياته، فيحصل على تعلُّم جديد يضاف إلى ما لديه من مخزون معرفي سابق.

 

وعلى الرغم من تعدد النظريات المعرفيَّة إلا أنّ علماء النفس المعرفيين قد ركزوا بحثهم لإيجاد إجابات مقبولة لمجموعة من التساؤلات مثل:

  • كيف يتعلَّم الأطفال؟
  • كيف يتذكرون المعلومات حين يحتاجون إليها؟ ولماذا ينسونها؟
  • كيف يفهمون المسائل التي تعرض عليهم؟
  • هل يحتفظون بالصور التي يشاهدونها في أذهانهم؟
  • لماذا يتفوق مُتعلِّم على زميله الذي يجلس إلى جانبه في غرفة الصف؟

 

وغير ذلك من الأسئلة المحورية، ولقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم، ووضع فيه من الأسرار ما جعل الألباب حائرة في كنه هذا الذي يحدث في دماغه حين يقع بصره على الأشياء من حوله. فكيف يحصل التفكير؟ وكيف تُبنى المعارف؟

استطاع "بافيو" (1971 Pavior) بعد دراسات وتجارب طويلة أن يتوصل إلى نظرية الترميز الثنائي والتي تشرح كيف أنّ الإنسان الذي يتفاعل مع البيئة يختزن المرئيات على هيئة صور وخطوط وعبارات وجمل وغير ذلك، ثم يستدعيها إذا احتاج إليها فيتعرَّف على الصورة إذا عرضت عليه مرة ثانية ويتذكر العبارة إذا سئل عنها.

 

وينصح المُعلِّمون طلابهم الذين يحفظون القرآن الكريم بأن يكون حفظهم من مصحف واحد لتظل صور الصفحات مطبوعة ومختزنة في ذاكرتهم. وينصح علماء النفس المعرفيون الدارسين بأن يضعوا لأنفسهم مخططاً إدراكياً يساعدهم على الفهم في وقت أقل، وعلى القارئ أن يسأل نفسه: ما الذي سأقرؤه؟ ولماذا سأقرؤه؟

 

ويمكن لعملية فهم النص أن تتم وفق الخطوات المقترحة الآتية:

  • معرفة المعنى اللغوي لمفردات النص.
  • إضافة صور ورسومات توضيحيَّة للنص.
  • تحديد الفكرة المحورية وسائر الأفكار الرئيسة.
  • تحديد الأفكار الجزئية.
  • ولا بد قبل ذلك من معرفة الغرض الذي من أجله تكون عملية القراءة.

 

أذكر أنّي عندما تقدمت لمقابلة اللجنة المكلفة باختيار الطلاب المقبولين للحصول على درجة الماجستير في التربية من الجامعة الأردنية سنة (1983) قدمت اللجنة لي نصاً مكتوباً باللغة الإنجليزية، وطُلب مني أن أقرأه، فتبادر إلى ذهني أنهم يريدون اختبار مقدرتي على الإلقاء، فبذلت جهدي لقراءة النص بإلقاء جيد، غير أنّهم سألوني: ماذا فهمت من هذا الذي قرأته؟ ولم أكن قد فهمت شيئا كثيراً، لذلك لم أنجح في المقابلة لكوني لم أكن أعي الغرض الذي قرأت من أجله النص.

 

وعملية الفهم هي التي تعمل على تنمية التفكير وصولاً إلى الإبداع وإيجاد حلول سليمة للقضايا المطروحة، وهذه الحلول لا يمكن التوصُّل إليها إلا بالفهم، لذلك فإنّ من العلماء المعرفيين من يرى أن عملية الفهم مرادفة لعملية الحل.


وقد توالت النظريات التي تساعد المُتعلِّم على الفهم، ومن أبرزها نظرية المخططات الإدراكيَّة (schemata) التي اقترحت بناءً معرفياً يساعد القارئ على استيعاب المادة المقروءة، ونظرية الحيثيات التي هي أقل دقة من نظرية المخططات. 

 

اتجاهات التفكير -محمود طافش