أهمية تدريس القيم

محمود طافش

يهتم المُعلِّمون بتعليم تلاميذهم التفكير عن طريق تزويدهم بالمعارف والزيادة في تحصيلهم لها، وعلى الرّغم من أن المجال الوجداني بكافة مستوياته معروف لديهم، إلا أن كثيراً منهم يتجاهلونه، وتبقى دروسهم تتمحور حول تلقين المُتعلِّمين بعض المعارف التي سيمتحنون فيها. ولأنّ القيم تُعَدُّ من أبرز عوامل ضبط السلوك وتوجيه الأنشطة نحو الأهداف التربويَّة التي من شأنها تدريب الأطفال على المنهج العلمي في التفكير، بقصد إحداث تغيير مرغوب فيه، في سلوكهم وفي طرائق تفكيرهم، فإن تدريس القيم والاتجاهات يُعَدُّ شرطاً رئيساً لإتمام عملية بناء شخصيَّة الطفل.



وكنتيجة حتمية للتغيُّرات الاجتماعيَّة التي شهدها العالم، ونظراً لتفشي السلوكيات الغريبة الوافدة بين الشباب، بسبب التواصل المكثف مع الآخرين، والانتشار الواسع لشبكة المعلومات العالميَّة (الانترنت)، فقد طغت قيم المادة والعلوم والتكنولوجيا على ما عداها من قيم، فتراجعت القيم الروحيَّة في كثير من الأماكن. ونظراً لأنّ الشرق العربي هو أكثر الأطراف تضرراً نتيجة للتراجع الملموس في تمسّكه بقيمه الروحيَّة، فقد ارتفعت الأصوات مناديةً بضرورة التروّي، والتوقف لمراجعة الواقع، وتحديد المواصفات التي ينبغي توافرها لبناء شخصيَّة الإنسان الجديد في القرن الحادي والعشرين، والتي ينبغي أن تبرز فيها القيم الروحيَّة والنزعات الإنسانيَّة.

لقد ضعف التمسُّك بالقيم والمبادئ في كثير من أنحاء العالم العربي، لدرجة بات فيها المعيار الرئيس لقياس التحوُّل الاجتماعي هو الثراء المادي، وامتلاك المساكن الفاخرة، والسيارات الفارهة، وغيرها من المبتكرات التكنولوجيَّة، وتفشى الترف الزائف بسبب غياب التربية الفاعلة والمؤثرة، وكان من ردود الأفعال الملموسة أن تشبث البعض بالماضي لكونه الأصالة التي لا ينبغي الابتعاد عنها أو تجاوزها، وارتمى آخرون في أحضان الحضارة الغربية يحدوهم الأمل في الخلاص، وتاه فريق ثالث بين هؤلاء وأولئك، وهذا ما جعل مُنظَّمة "اليونسكو" في تقريرها حول التعليم في القرن الجديد تدعو إلى تكثيف الاهتمام بتدريس القيم الإنسانيَّة. فكيف السبيل لتفعيل التربية العربية، وجعل المُعلِّمين قادرين على بعث نزعة التمسُّك بالقيم الموحدة، ورسم معالم الخلاص بإيجاد نظام مُتطوِّر للقيم المنقذة من الضلال؟

 

مفهوم القيم:
القيم هي "المعتقدات التي يؤمن بها الفرد، فتوجه سلوكياته في الحياة وجهة مُحدَّدة وفقاً لمعطياتها، وتهبه عاطفة تعمل على تشكيل شخصيته، وتحديد هويته التي تميّزه من غيره من الناس الآخرين"، لذلك فإنّ الإنسان الذي يتبنى قيمة الصدق مُثلاً، يميل لفعل كل ما يتسق وإيّاها من مواقف خيّرة، يدفعه إلى ذلك إيمان قلبي بفضلها وجدواها، ويقوده هذا الميل إلى أن ينهج سلوكاً نابعاً من مجموعة القيم الأخرى المتوافقة والمتسقة وإيّاها، ويتحاشى ما عداها من ممارسات تتناقض وإيّاها.

ويعتقد المؤمنون بالله وأتباع الرسل والديانات السماوية، أنّ مصدر القيم هو الخير المطلق الذي يستطيع الباحث عنه التوصُّل إليه من خلال توظيف العقل في التفكُّر في أوامر الله المبدع ونواهيه، فيلتزم الأعمال النافعة، ويجتنب الممارسات الضارة، لذلك فإنّه يمكن عدُّ القيم بمنزلة القانون الذي يضبط الممارسات، ويلزم المرء بالتفريق بين هذه وتلك، واختيار ما تربّى عليه منها. إنّ السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: ما أهمية القيم لتحقيق التوازن النفسي للأطفال؟

 

أهمية تدريس القيم:
تتطلع المدرسة الحديثة إلى بناء شخصيَّة الطفل من جميع جوانبها، فهي تعلِّمه التفكير لتحدث تغييراً محبباً في سلوكه وفي طرائق تفكيره، ولا يمكن أن يكون هذا التغيير متوازناً ومتكاملاً دون أن يكون مرتكزاً على قيم خيّرة ينطلق منها. ومنظومة القيم التي يعتنقها الفرد تولّد لديه طاقات تدفعه إلى التصرف بما لا يتعارض وإيّاها، فإذا حاد عنها فإنّه يشعر بألم ناجم عن تأنيب الضمير.
ومن أبرز القيم التي ترغب المدرسة في تسليح الطفل بها، الصدق والعدل والأمانة والوفاء، وحب العمل والإخلاص فيه، واحترام النفس، وحسن الإصغاء، وأدب الحوار، وتقدير مشاعر الآخرين وآرائهم، وغير ذلك كثير. فإذا بلغ هذه المرحلة فقد قطع شوطاً كبيراً في سبيل إعداده النفسي. وتتولد العدالة عن التزام القيم، وبها يسود الخير الذي هو أصل الأخلاق، وتتقدم الأمم وتزدهر الأوطان، وفي حالة غيابها فإنّ الظلم يطل برأسه ليعيث فساداً في المجتمعات، لكن هناك شرطان أساسيان لا بد من توافرهما لدى المُعلِّم، لكي يكون قادراً على تدريس تلاميذه القيم والاتجاهات، وهذان الشرطان هما:

  1. حريَّة التفكير:
    وهذه هي التي تُمكّن المُعلِّم من الإبداع في عمله، إذ تقتضي ألّا يكون المُعلِّم خاضعاً لأي مؤثرٍ خارجي قد يصرفه عن الهدف الرئيس لوظيفته في الحياة، والمتمثل في إحداث تغيير محبب في سلوك الأطفال وفي طرائق تفكيرهم. ومن أكثر المؤثرات سلباً في فكر المُعلِّم وأدائه الأنظمة السياسيَّة المستبدة التي تحجر على عقل المُعلِّم بوسائل الترغيب أو الترهيب، كي لا يعمل على لفت أنظار تلاميذه إلى ممارسات الحاكم الظالم، لذلك فقد كان المُعلِّمون المبدعون من السلف الصالح لا ينحنون أبداً أمام جبروت الطغاة، وكانوا يصرون على أن يجهروا بآرائهم على الرغم من تنوع القهر والسجن والتعذيب التي كانوا يتعرَّضون لها.
    ومن الأخطار المحدقة بالطفل والتي يمكن أن تحبط جهود المُعلِّم الرامية إلى تنوير عقول تلاميذه القنوات الفضائية الغازية، والتي أُنشئت لتكون أداة الأعداء في تدمير القيم، والتي أصبح تأثيرها يفوق تأثير المُعلِّم.
    ومن العوائق التي تعترض انطلاق أفكار المُعلِّم، العادات والتقاليد الضارة التي تستند إلى الأساطير القديمة والأفكار الخرافية، والتي قد يجد المُعلِّم صعوبة في تخطّيها فيضطر إلى مجاراة الآخرين فيما يذهبون إليه.

  1. التحلي بالقيم الاجتماعيَّة:
    والمُعلِّم المبدع يتحلى بالقيم الاجتماعيَّة التي يجمع عليها الناس من حوله، كالحلم والتسامح وحسن الجوار، فإن لم يكن مالكاً لها فلن يكون قادراً على أن يهبها لتلاميذه، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا تمكنت هذه القيم من قلوب الناس، فستسود المجتمع روح المحبة والإخاء.
    والقيم الخلقيَّة تضيء للمُعلِّم سبل النجاح وتهيّئ له مدارج الإبداع في عمله، فالصدق والوفاء والأمانة والتواضع والإخلاص والرحمة واحترام الآخر وغيرها من هذه المنظومة هي الأرضية الروحيَّة للمُعلِّم، وهي التي تمنحه الثراء النفسي، والغنى القلبي، والجاذبية الروحيَّة، والقدرة على الاستيعاب الخلقي لطلبته، وعلى الرغم من أنّها تخص قلب المُعلِّم وروحه ونفسه وعلاقته بالله تعالى، إلا أنّ لها أبلغ الأثر في نجاحه الشخصي والمهني والاجتماعي، والتسلح بهذه المنظومة هو الذي يُميّز المُعلِّم المبدع من غيره، فالعلم والتربية لا ينفصلان عنده عن الأخلاق والحكمة، وهذا البعد الروحي هو الذي يضبط سلوكه تجاه الأطفال، ويهبه القوة الروحيَّة والجاذبية الآسرة التي تجعلهم يدورون في فلكه الروحي فيكون أقدر على تربيتهم. وهو غني عنهم فيرتفع بهم ويسمو روحياً وعلمياً ولا يسفلون به.
    والقيم الخلقيَّة تجعل المُعلِّم قريباً من تلاميذه، فإذا أحبهم فإنهم سيحبونه، وإذا أكرمهم بالإخلاص في تعليمهم فإنهم سيكرمونه وسيقدرون له صنيعه، ومن مسببات حُبّ التلاميذ لمُعلِّمهم رحمته بهم وعدم القسوة عليهم.


الأسس التربويَّة والفكريَّة لتدريس القيم والاتجاهات:

تستند عملية تدريس القيم إلى مجموعة من الأسس والقواعد الراسخة التي يتم بعضها بعضاً، وأبرز هذه القواعد ما يأتي:

  1. تعريف المُتعلِّم بدوره في بناء وطنه وتطويره وفق منهجيَّة علميَّة وعلى أسس سليمة وراسخة.
  2. بناء شخصيته بناءً متكاملاً من جميع جوانبها المعرفيَّة والوجدانية والاجتماعيَّة، بحيث تتكاتف المعارف والقيم لديه، فتمكنه من اتخاذ مواقف إيجابيَّة تتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الفاسد والمطالبة بالحقوق.
  3. تزويده بالقدرات والمهارات التي تؤهله لمحاربة مواطن الفساد، وطرح البدائل الصالحة.
  4. تخطيط الأنشطة اللازمة لتزويد المُتعلِّمين بالقيم التي يحتاجون إليها وتدريبهم على ممارستها عملياً.
  5. تمييز التعليم ومراعاة الفروق الفرديَّة بين المُتعلِّمين، وتعليمهم التفكير من خلال المفاهيم والقيم.
  6. تدريب المشرفين التربويين ليكونوا قادرين على تحسين أداء المُعلِّمين في عملية تدريس القيم.


تنفيذ تدريس القيم:
يقوم المشرفون التربويون بتخطيط وإعداد (ورش) مجموعات عمل لتحسين أداء المُعلِّمين كل حسب تخصصه في تناول القيم التي يستند إليها المجتمع الصالح. وإيجاد بيئة صفيَّة ملائمة لتدريس ما يتم اختياره منها. وتتسم البيئة الصفيَّة المنتجة بأنها تستند إلى تفاعل صفي نشط ومُتعدِّد الأطراف، تُوظف فيه الأسئلة الحافزة إلى التفكير، والتي تهيئ المُتعلِّم للتعامل مع قضايا حياته، وتؤهله للاعتماد على نفسه في صياغة فرضيات سليمة، وتجريبها للتأكد من صلاحيتها قبل اعتمادها في اتخاذ قرارات صائبة، كما أنها تولد لديه القيم السامية، والتي تتطلع المؤسسة التربويَّة إلى غرسها في نفوس الناشئة، بعد أن تهيئهم لاستيعاب مفاهيم الخير والجمال.
ونظراً لأهمية القيم ارتفعت الأصوات في بعض أنحاء العالم العربي، ومن بينها الأردن والإمارات، منادية بضرورة تدريس القيم والاتجاهات عبر استراتيجيَّة واضحة ومُحدَّدة المعالم، تهدف إلى تطوير المناهج الدراسيَّة أو تعديلها وإثراء مفرداتها، بحيث تتسع للقيم التي ترغب القيادة التربويَّة في تنشئة الجيل عليها.
والمُعلِّم الناجح هو الذي يستطيع بلورة هذه القيم وغرسها في وجدان المُتعلِّم، وذلك من خلال ربطها بقضايا المُتعلِّمين الحياتيَّة، وبتوظيف واحد من أساليب التدريس الآتية:

  1. أن يكون المُعلِّم قدوة لتلاميذه فيقلدونه في كل ما يقوم به من أعمال وحركات.
  2. الإرشاد والتوجيه المباشر بحيث يحدد المُعلِّم القيم الواردة في موضوع الدرس، فيحدثهم عنها محاولا إقناعهم بتبنيها والقيام بالأنشطة اللازمة لتدريبهم عليها، والعمل بمحتواها.
  3. توظيف المسرح والتلفاز في التدريس لإشباع حاجاتهم إلى القيم.
  4. تأهيل المُعلِّمين في أثناء الخدمة وتدريبهم على غرس القيم الصالحة في نفوس المُتعلِّمين.
  5. تهيئة البيئة الصفيَّة بحيث تكون صالحة لاستخدام التقنيات الحديثة، وكذلك لتوظيف طرائق تعليم التفكير.
  6. وضع منهجيَّة علميَّة لتربية مواطنين صالحين وقادرين على خدمة أمتهم وحماية وطنهم، وعلى السير في ركاب الأمم الناهضة، والتعايش مع مُتطلَّبات العصر المتجدد.

ونحن لا ننكر أن التربويين في العالم العربي يتحدَّثون ومنذ سنوات عن تطوير المناهج أو تعديلها وتحديثها، وعن تغيير أساليب تدريسها، وذلك بتدريب المُعلِّم على كيفيَّة التعامل وإيّاها، وعلى توظيف التقنيات الكفيلة بتحقيق الأهداف، واعتماد وسائل التقويم الملائمة لقياس التغيُّر الحاصل في السلوك وفي طرائق التفكير.

وهناك أيضاً حديث عن أهمية تحديث التخطيط الدراسي ليتم عبر أهداف سلوكيَّة متكاملة ومتنامية وقابلة للملاحظة والقياس، وعلى الرّغم من أن واضعي مجالات الأهداف قد اعتمدوها منذ أكثر من نصف قرن إلا أنّ كثيراً من المُعلِّمين العرب ما زالوا غير قادرين على تحديد الأهداف الوجدانية التي يسعون إلى تحقيقها، إنهم يريدون مواطناً قادراً على أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، لكنهم غير جادين في التخطيط، ولا في العمل من أجل إعداد هذا المواطن الذي يتحدَّثون عنه.

وكاتب هذه السطور يبحث في هذه القضية، ويمارس أعمالاً إشرافيه منذ أكثر من عشرين عاماً، وهي فترة كافية لبناء الجيل الصالح المنشود لو خلصت النوايا، لكنه لم يلاحظ قط في أي مكان من الأماكن التي عمل فيها جديّة حقيقيَّة لتحقيق الأهداف المُتعلِّقة بالقيم، فالقائمون على التخطيط لها مُشتَّتون في مساعيهم، منهم من يريد تدريس القيم عبر مواضيع دراسيَّة تنفّذ على هيئة مواعظ وإرشادات دون أن يفطنوا إلى أن ساعات اليوم الدراسي تضيق عن استيعاب القضايا المُتعلِّقة بالأهداف السابقة.
وهناك من يدعو إلى تحقيق هذا الهدف عبر استراتيجيَّة واضحة ومُحدَّدة المعالم. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن دعاة التطوير هؤلاء قد أهملوا قضية رئيسة في هذا المجال، وهي أن التطوير إذا لم ينشأ على أرضية صلبة، وعلى أسس راسخة، فإنّه سينهار على رؤوس المطوِّرين (بكسر الواو) والمطوَّرين (بفتح الواو)، لذلك فإننا نرى أن تنفيذ التطوير المزعوم يقتصر على القشور بعيداً عن جوهر التطوير، وهذا العمل غالبا يكون ضرره أكثر من نفعه، لذلك، فإنّه لا بد من إحداث نقلة نوعيَّة في مجال تدريس القيم والاتجاهات، وإلا فإنّ الضياع سيكون حليف الأجيال القادمة.

أهمية تدريس القيم