ما المقصود باليقظة الذهنية؟
هي القدرة على الوجود الكامل في اللحظة الآنية، والانتباه الواعي لما يدور في الداخل من أفكار ومشاعر، وما يحيط بالفرد من بيئة، دون إصدار أحكام؛ إذ تخفف اليقظة الذهنية التوتر والقلق، وتزيد الوعي بالذات، وتستعيد الحضور الذهني الذي كثيراً ما يتبدَّد في زحام الحياة اليومية.
ترتكز هذه الممارسة على عدد من المبادئ الجوهرية، مثل التخلي عن التعلُّق بالأفكار أو التوقعات، وتبنِّي "عقلية المبتدئ"؛ أي النظر للأمور بفضول واهتمام وكأنَّها تُكتشف لأول مرة، والتحلِّي بالصبر، وتجنُّب إصدار الأحكام، والقبول التام بالواقع كما هو، والثقة في النفس، والامتناع عن اللهاث المحموم وراء النتائج.
تُدمَج هذه المبادئ في جلسات الكوتشينغ بعدة صور، وهي تشكل الفلسفة والمنهجية المُتَّبَعة مع العملاء في بعض الحالات، أو تظهر على شكل تقنيات وأدوات عملية تُستخدم داخل الجلسة لتعزيز أثرها، وفي كلتا الحالتين، تُضفي اليقظة الذهنية عمقاً على تجربة العميل وتُحقق نتائج أكثر اتزاناً وفعالية.
تطبيق اليقظة الذهنية عملياً
عندما يعتمد الكوتش اليقظة الذهنية بوصفها نهجاً متكاملاً، فإنَّها تتحوَّل إلى بوصلة ذهنية وروحية تُوجِّه رؤيته للكوتشينغ، ويؤمن الكوتشز الذين ينهجون ما يُعرف بـ"الكوتشينغ الواعي" أنَّ العميل كامل بالفطرة، ومليء بالموارد والإمكانات الداخلية، وقادر على توجيه نفسه تجاه التغيير والنمو.
تُرسي هذه الفلسفة علاقة كوتشينغ متوازنة تقوم على التعاون، ويكون فيها العميل هو محور العملية، بينما يُجسِّد الكوتش دور المرشد أو الميسر الذي يمكِّن العميل من استثمار قدراته وتعزيز مرونته النفسية.
يحرص الكوتش في هذا السياق على استحضار مبادئ اليقظة الذهنية قبل الجلسة وخلالها وبعدها، فهو يُدرِّب نفسه على تجنُّب الأحكام المسبقة، ويستحضر عقلية المبتدئ التي تُمكِّنه من الإصغاء بانفتاح، ويتخلَّى عن أجندته الشخصية ليُركِّز كلياً على اللحظة الراهنة، وهو ما يُضفي على الجلسة طاقة من الحضور الأصيل والتواصل العميق.
أما في النموذج الثاني، فتُستخدَم اليقظة الذهنية بعملية من خلال تقنيات ملموسة داخل الجلسة التدريبية، فبدلاً من أن تبقى فكرة فلسفية عامة، تتحوَّل إلى وسائل تُوظَّف لخدمة أهداف محددة.
يمكن أن يستخدم كوتش الصحة تمرينات التنفس الواعي، أو جلسات التأمل القصير، أو "مسح الجسم" (body scan) الذي يُساعد على التركيز على الإحساس الجسدي، أو تقنيات التصوُّر الذهني التي تُمكّن العميل من تخيّل مشاهد أو مواقف تُعزز الوعي الذاتي أو الإيجابية، وتثبِّت هذه الأدوات انتباه العميل في اللحظة الراهنة، وتخفف من التوتر، وتعزز الوعي بالأفكار والانفعالات.

وفق السياق والحالة
تختلف طرائق إدماج اليقظة الذهنية باختلاف العملاء وسياق الجلسة، ويجب أن يكون الكوتش حساساً لطبيعة العميل وحاجاته النفسية والثقافية، فيختار التمرين أو التقنية الأنسب وفقاً لذلك، كما يُعد طلب الإذن من العميل قبل البدء بأية ممارسة ذهنية أمراً جوهرياً، احتراماً لمبدأ أنَّ العميل هو من يقود العملية التدريبية، لا الكوتش.
تُظهر هذه النماذج أنَّ اليقظة الذهنية، ليست غريبة على الكوتشينغ الصحي؛ بل هي حليف طبيعي له، وتُدمَج بتناغم، سواء بوصفهما نهجاً متكاملاً أم أدوات مدروسة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ بعض العملاء، قد يخلطون بين مصطلحَي "العافية" (Wellness) و"اليقظة الذهنية"، ويستخدمونهما بتبادلية، رغم أنَّ كليهما يشتركان في تحسين جودة الحياة، إلَّا أنَّ المفهومين ليسا مترادفين.
تشير العافية وفقاً لتعريف منظمة الصحة العالمية إلى "حالة مثلى من الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية"، أما المعهد الوطني للعافية (National Wellness Institute) فيُعرِّفها بأنَّها "عملية واعية يقودها الفرد، وتتطور باستمرار لتحقيق أقصى إمكاناته"، وتشمل العافية جوانب متكاملة كالصحة الجسدية، والعاطفية، والروحية، والعقلية، والاجتماعية، والبيئية، وحتى المالية.
تُعد اليقظة الذهنية في المقابل أداة أو أسلوباً يُستخدم لتعزيز بعض جوانب هذه العافية، فقد تقلل القلق وتحسن الحالة النفسية، أو تعزز الروحانيات، أو تُعمِّق فهم الفرد لعلاقاته الاجتماعية. تعزز اليقظة الذهنية مفهوم العافية وتُغذِّي أبعاده المختلفة، لكنها تبقى ممارسة ضمن منظومة أوسع، وليست بحد ذاتها مرادفاً لها.
5 نصائح لدمج اليقظة الذهنية في ممارسات الكوتشينغ الصحي
إذا كنتَ كوتشاً صحياً وترغب في إدخال مبادئ اليقظة الذهنية ضمن جلساتك التدريبية، فإليك 5 نصائح عملية تساعدك على دمج هذه المبادئ بتناغم مع طريقتك المخصصة في الكوتشينغ:
1. خصِّص بعض الوقت لممارسة اليقظة الذهنية قبل الجلسة
طبِّق تمرين يقظة ذهنية، مثل مسح الجسم، أو التأمل، أو التصوُّر الذهني لكي تستعيد تركيزك وتعزز حضورك الذهني قبل بدء الجلسة. تُعينك هذه اللحظات على الانفصال عن مشاغل يومك، واستعادة تركيزك، والدخول في حالة صفاء ذهني، مما يُهيّئك لـ الإصغاء العميق والتفاعل النشط مع عميلك، كما تُعزز حضورك المهني، وتقدم جلسة أكثر توازناً وفعالية.
2. افتتِح الجلسة بتسجيل شعوري واعٍ
ابدأ الجلسة بسؤال بسيط يتيح للعميل أن يُعبِّر عن حالته الشعورية أو احتياجاته اللحظية، مثلاً: "كيف تشعر في هذه اللحظة؟" أو "ما أكثر ما يشغل بالك الآن؟" يُمكِّن هذا النوع من الأسئلة العميل من التوقف قليلاً، والتواصل مع ذاته قبل الانخراط في محتوى الجلسة، مما يعزز حضوره الذهني، ويمنحه مساحة للتنفس العقلي والعاطفي.
3. استخدِم اليقظة للبقاء حاضراً بالكامل
راقِب أفكارك وتحيزاتك ككوتش، وكن حذراً ألَّا تُوجِّه العميل توجيهاً غير مباشر تجاه إجابات تنسجم مع تصوراتك، واستمِع بعمق لما يُقال وما لا يُقال: انتبه للغة الجسد، ونبرة الصوت، وتعبيرات الوجه؛ إذ يمنحك هذا الحضور الكامل القدرة على طرح أسئلة مفتوحة أكثر عمقاً، واستخدام تقنيات، مثل الانعكاس وإعادة الصياغة إعادة تُحدث أثراً حقيقياً في وعي العميل.

4. أدخِل تقنيات اليقظة الذهنية خلال الجلسة
يمكنك أن تدمج في الجلسة بعض الممارسات التي تساعد العميل على تنظيم انفعالاته وزيادة وعيه الذاتي، مثل تمرينات التنفس العميق، أو التأمل، أو مسح الجسم، أو التصور الذهني؛ إذ يمكن تطبيق هذه التمرينات في بدايات الجلسات لخلق جو من الهدوء، أو في الجلسة لدعم لحظة معينة، أو في نهايتها لإغلاق الجلسة برفق؛ بل ويمكن تقديمها بوصفها تمرينات منزلية بين الجلسات لتعزيز الأثر واستمرارية الممارسة.
5. حافِظ على مبادئ اليقظة الذهنية حاضرة دائماً
تذكَّر دائماً أنَّ جوهر اليقظة الذهنية، يكمن في القبول، وعدم التعلق، وعدم إصدار الأحكام، وعقلية المبتدئ، فلا تحكم على ما يُعبِّر عنه العميل، ولا توجِّهه لِمسار تراه أنت صائباً، وكن منفتحاً على كل فكرة، وتعامَل معها وكأنَّك تسمعها للمرة الأولى؛ إذ يُعزز هذا الانفتاح من قدرة العميل على استكشاف ذاته بحرية، ويُشعره بالأمان والثقة، تذكَّر أيضاً أنَّ الكوتش الجيد، لا يضع الأجندة؛ بل يُيسر الرحلة.
في الختام
إذا قرَّرت دمج مبادئ اليقظة الذهنية ضمن ممارستك التدريبية، فامنح نفسك الوقت اللازم لتجريب هذه الأساليب والتدرُّب عليها، ومع كل مرة تستخدم فيها إحدى هذه التقنيات، احرص على أن تطلب من العميل تغذية راجعة:
كيف كانت التجربة؟ هل كانت مفيدة له؟ فهذا الحوار لا يساعدك فقط على صقل أدواتك المهنية؛ بل يُعزز أيضاً من علاقتك مع العميل، ويجعل من اليقظة الذهنية جزءاً حياً ومتطوراً من عملك بوصفك كوتشاً.
أضف تعليقاً